للقدس عطرها.. سُورتها وسَروتها
TOPSHOT - Palestinians walk past the Dome of Rock at the Al-Aqsa Mosque compound before the Friday prayer in Jerusalem's Old City on October 14, 2016. / AFP / AHMAD GHARABLI (Photo credit should read AHMAD GHARABLI/AFP via Getty Images)

هل يليق العيد بأحد إلاها. القدس صورتنا وسورتنا وسروتنا.

مجموعة من الجند تسبقها كلاب بوليسية، تدنس الشوارع العتيقة. جدران يطل من فجواتها التاريخ بكل ما كان فيه من عز وشرف وبسالة. صهيل خيل وقرقعة سيوف آتية من البعيد البعيد. من ذلك الماضي الذي كان. سيوف بأيادٍ سمراء لوّحتها الشمس، خيل أصيلة، تجوب المكان، ما بين كر وفر. دماء زكية روت التراب. وتحررت الأرض. وشمخت القبة اللامعة في فضاء الحرية، لتصبح هي الرمز.

حوانيت متراصة. تعرض أثواباً نسجت بخيوط الذهب. وأوانٍ نحاسية طرقت بحب وشغف. وجوه سمراء تتجول في المكان. عيون سوداء لامعة تتصحف المحال. ولغة لا تشوبها شائبة. دروب ضيقة تصل بين البيوت العامرة بأهلها، والحوانيت التي تعرض كل ما تحب أن تراه العين، وخانات الغرباء، تلك التي تعج بزائريها. إنها شرايين المدينة القديمة، نبض حياتها. حركتها التي لا تهدأ. بساتين البرتقال والليمون تنشر عبقها في الأرجاء. تعطي للمدينة لونها المميز، وعطرها الذي لا يماثله عطر. والقبة الرمز تلمع تحت أشعة الشمس.

في غفلة من الجميع. سحابة سوداء لفت السماء. القدم الهمجية، اجتاحت المكان، صالت وجالت، حرقت وقتلت، وسرقت. سرقت النوم من العيون، سرقت الأمان من النفوس المطمئنة، سرقت البسمة من فوق الشفاه النابضة بالحياة. سرقت الأرض والتاريخ، الماضي والحاضر، وربما المستقبل! لا. لا. المستقبل ليس لتلك القدم الهمجية. إنه لأطفال لم يولدوا بعد، لأشجار لم تورق بعد. لطيور طال موسم هجرتها. لقبة ما زالت شامخة.

نباح الكلاب يعلو، وجلبة الجند تخفت. إنهم يقفون أمام أحد الأبواب القديمة. وامرأة مسنة، ربما كانت سنوات عمرها تفوق عمر المكان، خطوط وأخاديد تركها الزمان – ربما – أم هي سنوات القهر؟ لكن النظرات كانت ثاقبة وحادة، ونبرة الصوت شامخة متعالية، كشجرة السرو تلك المتحدية أمام الباب.

–  ماذا تريدون؟

– مخربون. مجرمون. اختفوا هنا.

 لا أحد هنا.

  -لا تكذبي. عيب. ابنك أيضاً مع المخربين؟

 – ابني أنا. يا ليته كان معهم. إبني غادر منذ زمن بعيد إلى بلاد بعيدة. ارتدى عباءة المقررات البالية وغادر. امتطى صهوة التصاريح الرنانة ورحل، ربما آمن بما صدر ويصدر وسيصدر، عن مجلس الأمن وجامعة الدول العربية وهيئة الأمم، ومنظمات حقوق الإنسان. وظنّ أن ما أخذ بالقوة سيعود بالمباحثات والمداولات، فوضع حقيبة ذكرياته فوق ظهره المحني وغادر.

-نريد أن نفتش البيت، ابتعدي عن طريقنا، وكفى هلوسات.

–  أبداً. القدم النجسة التي داست رقاب الأطفال في بلادي لن تدوس بساطي. اليد المجرمة التي اقتلعت العيون، وحرقت أشجار الزيتون، واجتثت الياسمين من الحقول، لن تعبث بذكرياتي. لن أسمح لكم.

-(قاطعها الجندي) .. عجوز غبية ثرثارة، المخربون في الداخل. سوف نفتش المكان.

ارتفعت يد في الهواء اعتادت أن تشق صدر الأرض بمعولها لتبذر للغد الآتي، ومنها انطلقت. رصاصة ربما. أم سهم. وها هي الدماء تغطي وجه أحد الجنود. ثم رشق من رصاص، أصاب الصدر واخترق القلب. وهوت شجرة السرو، بقامتها الشامخة ونظراتها الثاقبة وصوتها الواثق.

عيون. عيون. عيون أنبتتها الجدران. نظرات غاضبة أزهرت بها الأشجار. قبضات ارتفعت ملوحة. ارتجفت قلوب الجند، وأسرعوا يغادرون المكان تتبعهم كلابهم الضالة. ازدحم الشارع الضيق بأثواب نسجت من أشعة الشمس، ومناديل لها بياض الأقحوان في نيسان. وها هو الجسد يرتفع فوق الأكف.

أما البيت الذي لم تدسه الأقدام القذرة، ولم تعبث به الأيادي المجرمة، خرج من بابه العالي ثلاثة شبان في مقتبل العمر، أيديهم الفتية لا تحمل سوى الحجارة. أما العيون فلها نظرات كالسهام. تقدموا بخطوات ثابتة. ساروا في الطريق الضيق. ابتلعهم الظلام، ولكن صدى الخطوات انتشر في الأفق المترامي، فوق القبة اللامعة. القبة الرمز. وصوت ملائكي تناهى من إحدى النوافذ المفتوحة على الغد: “القدس لنا، وبأيدينا سنعيد بهاء القدس”.

***

لقد تساقطوا كأوراق شجر صفراء يابسة، في أيام قحط وجفاف. هلّلوا لسلام مزيف، وتهافتوا على اتفاقيات ذل وعار وتطبيع. تنكروا للقضية، والأرض، وصفقوا لخروجهم من تاريخهم برؤوس منكسة، ليدخلوا في صفقات خاسرة، بشروط مذلة. هدروا كرامتهم، وماء وجوههم على موائد الحوار. صافحوا أيدٍ مجرمة، وتصفحوا وجوهاً كالحة، وجالسوا الارهابيين القتلة. فهل نبارك لهم بيعهم القضية، ونستسلم لمن يحاول اغتيال الهوية؟

من المؤكد لا.. كل الرهان يبقى على الشعوب الشريفة الأبية، التي لن تتماهى مع حكوماتها وملوكها وأمرائها، ولن تجاريهم في لهاثهم المسعور نحو تطبيع ممقوت ومرفوض ومرذول.

أيتها المدينة التي اختصرت بها كل مدننا العربية. أيتها القبة التي أصبحت لنا رمزاً وهوية. لن نستسلم. لن نساوم. لن ننسَى دماءً طاهرة سفكت، وأطفالاً قتلت. لن ننسَى أشجار زيتون حرقت، وأرضاً سلبت. ستبقين أنت البوصلة، وأنت الهدف. فيك ستزهر مواسمنا، ويخضر عشب مستقبلنا، ومنك ستتفجر ينابيع ثورتنا.

إقرأ على موقع 180  جبران تويني مؤسس "النهار".. العروبة الصافية

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  حكايتي معها