هناك دائماً أشخاص مثل دونالد ترامب: أنانيون يميلون لتضخيم أهميتهم، ويعتقدون أن القوانين لا تطبّق إلا على الأشخاص البسطاء، وأن ما يحدث للأشخاص البسطاء لا يهم. غير أن الحزب الجمهوري المعاصر لا يشبه أي شيء رأيناه من قبل، على الأقل في التاريخ الأميركي. وإذا كان ثمة من لم يقتنع بعد بأن أحد الحزبين السياسيين الرئيسيين قد أصبح عدوا ليس للديموقراطية فحسب، وإنما للحقيقة أيضاً، فإن الأحداث التي شهدناها منذ الانتخابات كان ينبغي أن تضع حداً لشكوكه.
ذلك أن الأمر لا يتعلق فقط بدعم أغلبية من جمهوريي مجلس النواب والعديد من السناتورات الأميركيين لجهود ترامب الرامية إلى قلب خسارته في الانتخابات، برغم عدم وجود أي دليل على تزوير أو مخالفات واسعة. ويكفي أن تنظر إلى الطريقة التي يخوض بها ديفيد بيردو وكيلي لوفلر حملة جولة الإعادة لانتخابات مجلس الشيوخ في ولاية جورجيا. فهما لا يخوضان حملة قائمة على قضايا أو مواضيع معينة، أو حتى على جوانب حقيقية من التاريخ الشخصي لخصومهما، بل يدّعيان، بدون أي أساس في الواقع، أن خصميهما ماركسيان أو «متورطان في استغلال الأطفال». بعبارة أخرى، إن الحملتين الرامية إلى الإبقاء على السيطرة الجمهورية على مجلس الشيوخ مبنية على الأكاذيب.
يوم الأحد، انتقد ميت رومني (السناتور الجمهوري عن ولاية يوتا) محاولات تِد كروس (السناتور الجمهوري عن ولاية تكساس) وجمهوريين آخرين في الكونغرس الرامية إلى إبطال نتيجة الانتخابات الرئاسية، متسائلاً: “هل يحجب الطموح المبادئ لهذه الدرجة؟”. ولكن ما هي المبادئ التي يعتقد رومني أن الجمهوريين دافعوا عنها في السنوات الأخيرة؟ الواقع أنه من الصعب رؤية أي شيء يفسر السلوك الجمهوري الأخير عدا السعي وراء السلطة بأي وسيلة ممكنة.
ولكن، كيف وصلنا إلى هذه الحالة؟ وماذا حدث للحزب الجمهوري؟
الجمهوريون أصبحوا قوة راديكالية معادية لأميركا كما هي، وقد يكون هدفهم دولة حزب وحيد حيث «الانتخابات مجرد إجراء شكلي». وفي 2012، حذّر توماس مان ونورمان أورنشتاين من أن الحزب الجمهوري بات «غير متأثر بالفهم التقليدي للحقائق» و«يرفض شرعية معارضته السياسية”
الواقع أن الأمر لم يبدأ مع ترامب. ذلك أن تدهور الحزب كان واضحاً، لمن كان مستعداً لرؤيته، منذ عدة سنوات. ففي 2003، كتبتُ أن الجمهوريين أصبحوا قوة راديكالية معادية لأميركا كما هي، وقد يكون هدفهم دولة حزب وحيد حيث «الانتخابات مجرد إجراء شكلي». وفي 2012، حذّر توماس مان ونورمان أورنشتاين من أن الحزب الجمهوري بات «غير متأثر بالفهم التقليدي للحقائق» و«يرفض شرعية معارضته السياسية”.
وإذا فاجأك توق الكثيرين في الحزب لقلب نتيجة الانتخابات بناء على ادعاءات باطلة بالتزوير، فلعلّك لم تكن منتبهاً.
ولكن، ما الذي يحرّك الهبوط الجمهوري إلى الظلام؟ وهل الأمر يتعلق برد فعل شعبوي ضد النخب؟ صحيح أن هناك استياءً من اقتصاد متغير دعم المناطق الحضرية التي لديها تعليم عال على حساب أميركا الأرياف والبلدات الصغيرة، فترامب حصل على 46 في المائة من الأصوات، ولكن المقاطعات التي فاز بها لم تكن تمثّل سوى 29 في المائة من الإنتاج الاقتصادي لأميركا. كما أن هناك الكثير من رد الفعل الأبيض السلبي بسبب التنوع العرقي المتزايد للبلاد.
بيد أن الشهرين الماضيين شكّلا مثالاً عملياً لكيف أن غضب «القواعد المجتمعية» يُحرَّك من الأعلى. فإذا كان جزء كبير من القاعدة الجمهورية يعتقد، بلا أساس، أن الانتخابات زُوِّرت، فلأن ذاك هو ما تقوله شخصيات بارزة في الحزب. إذ يشير سياسيون الآن إلى تشكك واسع بشأن نتائج الانتخابات باعتباره سبباً لرفض النتيجة، ولكنهم أنفسهم يستحضرون تلك الشكوك بدون سند.
ثم إنك إذا نظرت إلى خلفية السياسيين الذين يعملون على إذكاء مشاعر الاستياء ضد النخب، فإن اللافت هو مدى حظ وغنى الكثير منهم. فهذا جوش هولي، الذي كان أول سناتور يعلن اعتزامه الاعتراض على المصادقة على نتيجة الانتخابات، لا يتوانى عن مهاجمة النخب، والحال أنه هو نفسه خريج جامعتي ستانفورد ويل. وكروس، الذي يقود الجهود الآن، لديه شهادات من جامعتي برينستون وهارفارد.
القصد ليس هو أن كلامهما ينطوي على نفاق، وإنما أن هذين الشخصين لم يتعرضا لإجحاف أو سوء معاملة من النظام. ولكن، لماذا يبدوان تواقين لإسقاط النظام لهذه الدرجة؟
أعتقد أن الأمر لا يتعلق بحسابات تحرّكها المصلحة الشخصية فحسب: أي مسألة التودد للقواعد. ذلك أن القواعد، كما أسلفتُ، تتلقى إشاراتها عموماً من نخبة الحزب. وجنون تلك النخبة لا يبدو أنه ادعاء أو تظاهر. وتخميني هو أننا إزاء حزب انحرف وعُزل عن بقية المجتمع.
بعض الناس شبّهوا الحزب الجمهوري المعاصر بالجريمة المنظمة أو طائفة دينية، ولكن بالنسبة لي يبدو الجمهوريون لا يتلقون الأخبار من العالم الخارجي، لأنهم يحصلون على معلوماتهم من مصادر حزبية تتحاشى نقل الحقائق المزعجة إليهم. ولا يواجهون إشرافا من قبل أشخاص بالغين، لأنه في بيئة سياسية منقسمة لا توجد سباقات تنافسية.
وبالتالي، فإنهم منطوون على ذواتهم بشكل متزايد، ومنخرطون في جهود غريبة أكثر من أي وقت مضى لإظهار ولائهم للقبيلة. وتعصبهم للحزب لا يتعلق بمواضيع معينة، وإنْ كان الحزب ما زال ملتزما بخفض ضرائب الأغنياء ومعاقبة الفقراء، وإنما بتأكيد هيمنة المجموعة ومعاقبة الغرباء.
ولكن السؤال الكبير هو: لكم من الوقت تستطيع أميركا كما نعرفها الصمود في وجه ما يمكن تسميته بـ«قبلية خبيثة»؟
محاولة إبطال الانتخابات الرئاسية فشلت، غير أنها تواصلت لمدة أطول بكثير، واستقطبت دعماً أكثر بكثير، مما كان يعتقده أي أحد تقريباً. وما لم يحدث شيء لكسر قبضة القوى المعادية للديموقراطية والمعادية للحقيقة على الحزب الجمهوري، فإنها يوما ما ستنجح في قتل التجربة الأميركية. (المصدر: نيويورك تايمز)