سقط رهان إسرائيل عندما اعتقدت ان القدس لقمة سائغة تستطيع ابتلاعها. ظنت ان القمع والتنكيل المتمادي منذ احتلالها عام 1967 سيكسر شوكتها وقدرتها على الصمود، وأن التهميش الذي تعانيه المدينة وأهلها من السلطة الفلسطينية والفصائل سيوهن عزيمتها، وأن التجاهل العربي المزمن لقضيتها والتطبيع الذي بلغ ذروته باتفاقات ابراهام، سيحبط شيبها وشبابها ويدفعهم للاستسلام إلى لص الكراسي والسلطة بنيامين نتنياهو والنائب “الكاهاني” ايتامار بن غفير.
كان بن غفير حاضراً في كل ليالي المواجهات في الشيخ جراح، وفي حضوره ترسيخ لسطوة استيطانية قامت عليها ركائز دولة اسرائيل. لا يمثل الرجل تاريخاً اسود فقط، بل يمثل خلاصة ما يطرحه العقل الإسرائيلي من “حلول” لإنهاء النزاع مع الفلسطينيين: دفعهم الى الرحيل أو تهجيرهم بالقوة، اذا كان ثمة استحالة بـ”إبادتهم”. يحلو للاحتلال الركون إلى “القضاء” عندما يتعلق الامر بالفلسطينيين، للإيحاء بأنه عاجز حيال اعتداءات المستوطنين، لكنه في الواقع لا يبالي بأي قضاء وقانون وبأي عدالة اذا كان الشاكي فلسطينياً. ذلك ان المشروع الإسرائيلي لا يقوم فقط على إستيراد يهود من كل أصقاع الارض لتوطينهم مكان اهل الارض الاصليين، بل كذلك إضفاء “عدالة” على هذا الفعل.
الاحتلال المصاب بالغطرسة وعقدة التفوق وفائض القوة ومقولة ان الفلسطيني الذي يخضع للقوة يمكن أن يخضع للمزيد من القوة، اعتقد أن الفرصة ملائمة لانتزاع بيوت عربية في القدس القديمة، عبر تسخير القوانين والمحاكم العرفية لمصلحته. لكنه لم يكن يدرك عمق روح المقاومة والصمود المتجذرة فيهم ومدى تمسكهم بأرضهم وبمفاتيح بيوتهم وبحي الشيخ جراح وبالقدس وبفلسطين.
اهل القدس الذين فقدوا النصير وفقدوا المرجعية الوطنية، لم يفقدوا الأمل ولم يفقدوا العزم. بات اضعفهم أقوانا، وجسد اطفالهم الرقيق درعاً ضد الرصاص.. هم ليسوا محاصرين، بل هم وحدهم الاحرار يدافعون عن ارضهم وكرامتهم ويقاتلون باجسادهم العارية حيث يتوجب القتال. قوة القدس ليست لا بالسلطة ولا بالفصائل ولا بالاحزاب بل بأهلها الذين يتخذون قرارهم بملء إرادتهم. يتنشقون هواء نظيفا برغم روائح الموت والبارود. اما نحن، فمحاصرون باليأس والاحباط و”المصالح القطرية”، وتعبق صدورنا بعفن “الواقعية” و”الاعتدال” و”الموضوعية”، ولا نفعل شيئاً سوى التمني والانتظار.. والإستنكار.
حي الشيخ جراح لا يفضح اسرائيل فحسب، بل يفضح كل من حولها وادعياء نصرتها. هو اضعفنا، لكنه حامينا الوحيد، وحارسنا الاخير. يعطينا الامل فنعطيه اليأس. يمدنا بالقوة، فنمده بالتخاذل
حي الشيخ جراح لا يفضح اسرائيل فحسب، بل يفضح كل من حولها وادعياء نصرتها. هو اضعفنا، لكنه حامينا الوحيد، وحارسنا الاخير. يعطينا الامل فنعطيه اليأس. يمدنا بالقوة، فنمده بالتخاذل. يشجعنا بصموده، فنحبط اهله بالفتن والتخبط والفوضى والتشرذم الذي لا يتوقف. يفتحون لنا قلوبهم، فنقفل كل الابواب في وجوههم، ووحدها اجسادهم الطرية لا تزال تدافع عنا جميعاً، ومع ذلك لم يتراجعوا ولم يُهزموا وهم يبقون وحدهم وينتصرون.
هذا الحي قائم من قديم الزمان، وعمر معاناته من عمر ضم الاحتلال للقدس عام 1967، وهو عينة من عملية التطهير العرقي التي بدأت قبل ذلك مع النكبة ولم تتوقف ابدا، فالاحتلال طوّق القدس بالمستعمرات التي صار لديها وزراء يمثلونها، بهدف الاستيلاء على أكبر عدد من المنازل العربية عن طريق المصادرات وبناء المستوطنات التي أصبحت أحياء كاملة، ولكي تتحول القدس العربية من مدينة تصلح لأن تكون عاصمة لفلسطين إلى “بانتوستان”.
وكل من تابع الأوضاع في هذا الحي المقدسي العربي على مر الأيام والإصرار المقدسي على رفض الانصياع للمحاكم الجائرة، كان يشعر أن الانفجار آتٍ لا محالة. أحداث ومواجهات تعيد إلى الأذهان ذكريات الانتفاضة الاولى، فالغضب المتولد من القهر والاستخفاف بالمقدسيين يذكر بحالة الغضب نفسها في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. ملامح التحدي والإصرار في وجوه شبان اليوم وبعضهم من جيل أوسلو. هي ملامح رماة الحجارة في الانتفاضتين الأولى والثانية، وربما الثالثة الآتية. إنتفاضة تختبر ما تبقى في جسد الأمة من حياء قومي يغفو ويئن. اهل الشيخ جراح لا يدافعون عن بيوت وحجارة، بل عن ما تبقى من كرامة.
الاحتلال المرتبك بدأ يدرك ان عدم تراجعه ونزوله عن الشجرة، سيضعه أمام خيارات أصعب، ليس من خلال ما يمكن للسلطة (وهو اصلا اكثر العارفين بعجزها المتمادي) ان تقوم به. يخشى أن تدفع حالة الصمود المقدسي بهذه الهبة نحو طور وشكل اعلى من الحجارة، بدليل الإحراج الذي أصاب فصائل المقاومة في غزة وجعلها تلتقط سريعاً اللحظة المقدسية. ولكن الأهم من ذلك ان ينتج المشهد المقدسي قيادة جديدة تتصدر القرار بدل القيادة الحالية وتكون قادرة على التكامل مع المقاومة. قيادة صلبة وعاكسة لتوجهات الشارع ونبضه. متمسكة بحقوق الشعب الفلسطيني. مُعيدة فلسطين إلى مكانتها في القلوب والعقول والضمائر. قيادة لا تميز بين إبن الـ 67 وإبن الـ 48. بين إبن الضفة وغزة، وبين المقيم في الشتات والمنافي. قيادة تكون صاحبة رأي وقرار، وليس مجرد عراضات. قيادة تعبر عن إرادة المقدسيين ومتطلبات تعزيز صمودهم وبقائهم على أرضهم.
كل الامل الا تضيع هذه الهبة مثلما ضاعت هبّات اخرى مماثلة. أن توحِّد القدس الفلسطينيين والعرب مثلما يتوحد عدوهم ليس بالكلام بل بالخطوات والقرارات السياسية والميدانية.