يقارب رونين بيرغمان الظرف السياسي الاقليمي الذي رافق الإجتياح “الإسرائيلي” الأول للبنان في آذار/ مارس 1978 بكثير من السطحية، محاولاً تصويره على انه مجرد رد على عملية فدائية نفذتها مجموعة من حركة فتح بقيادة دلال المغربي على الطريق السريع بين حيفا وتل ابيب!
يقول بيرغمان إنه قبل اسبوع واحد من وفاة القائد الفلسطيني وديع حداد جراء عملية تسميم دقيقة التخطيط نفذها عملاء “الموساد”، ارسل عميل سري إسمه “خادمة المنزل” تقريراً يقول فيه ان مجموعة فدائية تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية تخطط لتنفيذ هجوم داخل “اسرائيل”، فاستدعى اموس جلعاد المسؤول في جهاز “امان” الاستخباري “خادمة المنزل” وإلتقاه في احد المنازل الامنة لـ”الشين بيت” في القدس واستمع الى معلوماته وخرج بعدها قلقاً جداً اذ قال “فهمت منه انهم يخطّطون لامر خطير جداً يريدون من خلاله ايقاع اكبر عدد ممكن من الاصابات البشرية”.
هذه المعلومات تقاطعت مع رسالة لاسلكية تم إلتقاطها من مكتب منظمة التحرير في قبرص، تضمنت اسماء عناصر المجموعة التي ستنفذ الهجوم عبر البحر ومقر قاعدة إنطلاقها شاطىء بلدة الدامور الساحلية اللبنانية جنوب بيروت، وان الهدف منه اعاقة مفاوضات السلام بين مصر و”اسرائيل”، وان ياسر عرفات وخليل الوزير (ابو جهاد)، القائد العسكري لمنظمة التحرير، اعطيا الامر بالهجوم لانهم كانا يخشيان، وقد كانا محقين في خشيتهما، ان تؤدي المفاوضات المصرية الإسرائيلية الى خسارة المنظمة اكبر داعم لها، أي مصر. ويقول رونين بيرغمان مؤلف الكاتب ان الهجوم كان مهماً جداً لمنظمة التحرير ولخليل الوزير إلى درجة ان الأخير تحدث شخصياً مع عناصر المجموعة والى جانبه مسؤول عملياته في لبنان عزمي الصغير.
وبتكليف من أموس جلعاد، نفذت مجموعة من الكوماندوس البحري “فلوتيلا 13” عملية إستباقية اعطيت اسم “بار مازال” اي “الرجل المحظوظ” بهدف تصفية كل عناصر المجموعة في قاعدة بلدة الدامور ولكن ما حصل هو انهم قتلوا فقط من كانوا في احد المباني فيما العناصر التي كانت في مبان مجاورة لم يخرجوا للرد على نيران الكوماندوس وبالتالي لم يلحق بهم أي اذى. وقد اكد ذلك العميل “خادمة المنزل” في تقريره عن حصيلة العملية. فطلب جلعاد من عناصر الكوماندوس انهاء المهمة مجدداً، لكن وزير الدفاع عزرا وايزمان قال له “انسَ كل ما له علاقة بغارات الكوماندوس فانا ذاهب غدا الى واشنطن ومن شأن اية عملية ان تخرّب زيارتي”. فاحتج جلعاد بشدة قائلاً “ان ابو جهاد بات يعلم الان اننا نعلم بشأن خططه وبالتالي سينفذ هجومه بأسرع ما يمكن وسيكون هجومه قاتلاً لنا”.
حسب الرواية الإسرائيلية، وتتضمن مغالطات عديدة، في 11 مارس/ اذار عام 1978 وتحديداً عند الثانية والنصف من بعد الظهر، نزلت مجموعة فدائية من 11 عنصرا على الشاطىء قرب كيبوتز ماغان مايكل جنوب حيفا في محمية طبيعية محاطة ببركة لتربية الاسماك، وكانت هناك مصورة اميركية تدعى جيل روبين تصور اسراباً من الطيور المهاجرة عندما وصل اليها المهاجمون وكانوا في حالة بائسة اثر بقائهم في بحر هائج لثلاثة ايام عانوا خلالها الكثير وقد غرق اثنان منهم لان الطقس كان عاصفا والمياه عالية جدا وقد خسروا الكثير من متاعهم وظنوا انهم نزلوا على الشواطىء القبرصية (…) لكنهم شعروا بالغبطة عندما اخبرتهم روبين انهم في “اسرائيل” وتحديداً في منتصف الطريق بين حيفا وتل ابيب، فقتلوها قبل ان يواصلوا سيرهم نحو الطريق السريع على الساحل بين حيفا وتل ابيب حيث اوقفوا سائق سيارة تاكسي وبعدها اوقفوا حافلة ركاب واخذوا السائقين والركاب رهائن لهم وامروا سائق الحافلة ان يتوجه جنوباً نحو تل ابيب، وكان ابو جهاد قد امرهم ان يهاجموا فندقا هناك ولكن المهاجمين الذين ارتفعت معنوياتهم مع العدد الكبير من الرهائن لديهم قرروا تغيير الخطة، و”هذا شكل مفاجأة لانه لم يكن على هذا الطريق اي قوى امنية على الاطلاق”، كما يقول تقرير سري إسرائيلي، في ضوء قرار المجموعة إعتماد اسلوب جديد في الهجوم وهو الهجوم السيار على طريق يمتد حوالي خمسين كيلومتراً.
على الرغم من تمكن رجال الشرطة من ايقاف الحافلة شمال تل ابيب فان الارباك ادى الى فوضى عارمة “كان العنصر الطاغي في تلك اللحظة هو فقدان السيطرة المركزية عند كل من رجال الشرطة والمهاجمين الذين كانوا يطلقون النار في كل الاتجاهات في محاولة للدفاع عن انفسهم”
يضيف الكاتب ان المهاجمين كانوا يطلقون النار عشوائياً من نوافذ الحافلة على الاليات الموجودة على الطريق السريع كما اوقفوا حافلة اخرى واخذوا ركابها رهائن لهم ونظرا للطبيعة غير المعتادة للهجوم “فقد تعذر على القوى الامنية ان تقرأ الوضع بشكل دقيق وان تحدد تقييمها الذي على اساسه تمسك بزمام المبادرة ما ادى الى التأثير على سير الاحداث ونتائجها”.
ويتابع الكاتب انه على الرغم من تمكن رجال الشرطة من ايقاف الحافلة شمال تل ابيب فان الارباك ادى الى فوضى عارمة “كان العنصر الطاغي في تلك اللحظة هو فقدان السيطرة المركزية عند كل من رجال الشرطة والمهاجمين الذين كانوا يطلقون النار في كل الاتجاهات في محاولة للدفاع عن انفسهم”.
ويقول الكاتب إن احد المهاجمين صوّب مسدسه الى راس ابنة احد الرهائن ويدعى ابراهام شامير الذي رأى ان المهاجم كان مصاباً فهاجمه واستولى على مسدسه واطلق النار منه على مهاجم اخر في مقدمة الحافلة ومن ثم على مهاجم اخر، قبل أن يتبادل اطلاق النار مع ثالث فاصيب الإثنان ولكن المهاجم كان قد ازال حلقة الامان لقنبلة يدوية كانت في يده ووقعت ارضاً ما ادى الى انفجارها واصابة شامير بجروح بالغة اضافة الى مقتل احد المهاجمين وخمسة من الرهائن واشتعال النار بالحافلة، وفد نجح بعض المهاجمين والرهائن في مغادرة الحافلة ولكن اخرين احترقوا احياء بداخلها.
يقول بيرغمان ان الهجوم ادى الى مقتل 35 “اسرائيليا” واصابة 71 اخرين بجروح والى مقتل تسعة مهاجمين (بينهم دلال المغربي) فيما القي القبض على العاشر، ولكن كيف؟
عُثر على الأخير مع الجرحى في احدى المستشفيات التي نقل اليها الضحايا، وهنا ينقل بيرغمان عن المحقق في جهاز “الشين بيت” ارييه هادار قوله “رأيته مستلقيا على سرير المستشفى مصابا بجروح طفيفة ولكن كانت تتتم تغذيته بالانابيب بالاضافة الى انبوب المصل، وكان ينظر إلينا ساخرا، ففهم الطبيب ما يحصل فأدار ظهره وقال لنا افعلوا ما تفعلوا وانا افعل ما افعل. عندها أزلنا الانابيب فصرخ الجريح من الالم وبدأ كلامه قائلا لنا “لقد ارسلنا ابو جهاد”.
يضيف الكاتب ان وايزمان كان غاضبا بشدة من الهجوم الذي بات يعرف في “اسرائيل” بـ”مجزرة الطريق الساحلي” لانه لم يعط الامر بعملية استباقية تجهض الهجوم فعاد من زيارته الأميركية على وجه السرعة واعطى اوامره بشن “عملية الليطاني” في جنوب لبنان.
كان ايتان مزارعا ونجارا قبل انضمامه للجيش وكان “يؤمن بضرورة نقل المعركة ضد منظمة التحرير الى قلب تواجد العدو لاستفزازه وجعله يخرج من قواعده”
بعد ثلاثة ايام من تلك “المجزرة”، عبرت القوات المجوقلة والمظلية الحدود اللبنانية بهدف قتل ما امكن من مقاتلي منظمة التحرير وتدمير قواعدهم في جنوب لبنان ودفعهم الى شمال نهر الليطاني، اي حوالي اربعين كيلومترا بعيدا عن الحدود الشمالية. لكن الاجتياح الذي إستمر أسبوعاً أدى إلى مقتل 300 من مقاتلي منظمة التحرير وتدمير قواعدهم وعثر على مستودعات ذخيرتهم كما ادى الغزو الى نشر الامم المتحدة “قوات الطوارىء الدولية في لبنان” تحت مسمى “اليونيفيل” وانشأت “اسرائيل” ميليشيا مسيحية تابعة لها تحت اسم “جيش لبنان الحر” (بقيادة سعد حداد)، ولكن ذلك لم يمنع إستمرار إطلاق صواريخ الكاتيوشا نحو “اسرائيل” واستمرار تسلل المجموعات الفلسطينية نحو الجليل الأعلى في شمال “اسرائيل”.
قرر وايزمان اللجوء الى عمليات قتل متعمد يقوم بها جنود الوحدات الخاصة لان ذلك كان اقل تعقيدا واسرع ولا يحتاج الى قصة غطاء لقيام جنود الكوماندوس بتنفيذ هجومهم. لذلك، اختار وايزمان وحدة الكوماندوس البحري “فلوتيلا 13” لتنفيذ العمليات الخاصة في لبنان، وكلف لقيادتها الجنرال رافاييل ايتان الذي اصبح في ابريل/ نيسان عام 1978 رئيسا للاركان، وكان ايتان مزارعا ونجارا قبل انضمامه للجيش وكان “يؤمن بضرورة نقل المعركة ضد منظمة التحرير الى قلب تواجد العدو لاستفزازه وجعله يخرج من قواعده”، على حد تعبيره.
لم يكن ايتان يرى نفسه مقيداً بما هو صح او خطأ في السياسة وكان رده على قيام الفلسطينيين برمي الحجارة في تظاهراتهم في الضفة الغربية بان اقترح على الكنيست بناء مستوطنات يهودية جديدة حتى يصبح العرب “كالحشرات العالقة في زجاجة مقفلة”، وكان اول قرار له كرئيس للاركان هو اصدار عفو عن مجرمين من جنود الجيش “الاسرائيلي” كانا قد ادينا بجرائم ضد اسرى فلسطينيين، احدهما (ي.) (يذكر الكاتب الحرف الاول من اسمه فقط) الذي قتل احد الاسرى الفلسطينيين خلال استجوابه. اما الثاني فقد كان الملازم دانييل بينتو الذي عذب وقتل اسيرين فلسطينيين خلال “عملية الليطاني” ورمى جثتيهما في بئر. وكان ايتان، يتابع الكاتب، ضخم الجثة واشبه بدب وقليل الكلام وفي اول كلمة له مع الكوماندوس البحري في قاعدة عتليت بعد وقت قصير من توليه رئاسة الاركان قال لهم “انتم يا جنود فلوتيلا 13 كنتم مثل خصيتي كاهن، خارج الخدمة ولكن من الجيد انهما موجودتان. لكن كل ذلك سيتغير الآن”.
وكانت وحدة “فلوتيلا 13” قد انشئت في العام 1949 كوحدة كوماندوس سرية مهمتها خرق خطوط العدو والقيام بعمليات تخريب وقتل متعمد واغتيالات عبر البحار واختار لها مؤسسوها شعاراً يتماشى مع روحية عملها وهو “مثل الخفّاش خارج الظلام، مثل النصل يقطع بصمت، ومثل القنبلة تحطم بضجيج عال” فيما رمزها عبارة عن جناحي خفاش في قلبهما رمز البحرية، وكان برنامج التدريب لعناصرها يستمر 18 شهراً من التدريب المضني كبرنامج تدريب وحدة “سييريت ميتكال” ان لم يكن اكثر، وكان يختتم التدريب بان يخضع المتدربون لعمليات تعذيب تحاكي تلك التي يخضع لها اسرى الحرب. وقد نفذت هذه الوحدة 23 غارة ضد منظمة التحرير على الاراضي اللبنانية ما بين العامين 1978 و1980، وقتل في هذه الغارات 130 شخصاً واصيب المئات بجروح.