يتلهى الناس السذج بأخبار السياسة الزواريبية الضيقة وحصص الطوائف الموهومة وصراع الصلاحيات الزائفة. ويرفدهم الإعلام على مدار الساعة بقصص و”خبريات” وتسريبات عن وهم خلافات هذا مع ذاك، وزعم أحقية موقف هذه الجهة السياسية أو تلك الطائفة.
قصص إخبارية وتحليلية مغرية للقراءة والمتابعة من حيث الشكل لكنها تضليلية خبيثة في جوهرها.
يكمن التضليل في افتعال الجرعة السياسية الجدلية كما لو أن النظام صالح وبخير وما الخلاف بين أركانه إلا على تطبيقه فقط مع “رتوش” دستورية وميثاقية طفيفة، وأنه لا ضير في التعاطي ضمن “صندوق الصيغة” من دون أدنى نظر خارجه أو خارجها.
أما خبث المضمون فيكمن في أن لكل حزب أو حركة أو تيار أبواق تبث لحساب الممول (السياسي والطائفي) ما لذّ وطاب من الأقاويل النافية لمسؤوليته عن هذه الأزمة الطاحنة، ملقياً اللوم على خصمه اللدود. ولا يتوسع ذلك الإعلام المضلل في قراءة عادلة وشاملة لمسؤوليات كل تلك الطبقة الحاكمة منذ اتفاق الطائف الى اليوم. وكيف انها تصارعت في السابق على مغانم الازدهار المزعوم، وما صراعاتها اليوم إلا على مغانم الانهيار المحتوم. واذا قرأنا عن فضيحة هنا أو سمعنا عن ملف فساد هناك، فذلك في باب تحذير بعضهم البعض من مغبة الاقتراب كي لا ينفجر الحزام الفاسد الناسف للجميع أو لاظهار الخصم فاسداً بانتظار تسوية معه كما حصل عشرات المرات منذ 30 سنة الى اليوم.
ويندر أن يكلف الاعلام المنحاز نفسه عناء استقصاء منهجي مستقل محايد وموضوعي لكشف حقائق إنفاق وهدر وفساد وتبديد 270 مليار دولار في غضون ثلاثة عقود، في بلد لا كهرباء فيه كما يجب، ولا معالجات سليمة لنفاياته، ولا بنى تحتية حديثة، ولا طبابة للجميع، ولا تغطية اجتماعية شاملة، ولا ضمان شيخوخة. بلد تحول غابة مخالفات بناء وتعديات على أملاك عامة وخاصة، ومنخور بمسارب تهريب براً وبحراً وجواً. بلد لا استقلال للقضاء فيه وأمنه بالتراضي، والتهرب الضريبي رياضة وطنية فولكلورية محببة يمارسها الصغير والكبير. بلد تدمّرت بيئته بحراً وجبلاً وسهلاً. بلد يسجل أحد أعلى مستويات التفاوت في توزيع الثروة في العالم، فنسبة 10 في المائة فقط تملك 71 في المائة من الثروة الوطنية، كما جاء في تقرير للأسكوا عن العام 2019.
يكفي النظر إلى قائمة التجار والمستوردين الذين سمح لهم الحصول على الدولارات المدعومة (1500 ليرة للدولار) لنعرف من أسمائهم ارتباطاتهم مع زعماء ائتلاف الطوائف النافذين بلا استثناء. فمن جهة هرّبوا مليارات الى الخارج ومن أخرى سرقوا مليارات الدعم
وعندما وقعت الواقعة في خريف 2019 أراد البعض القفز من المركب الغارق بادعاء أنه إصلاحي. وقعت كرة النار في حضن فريق ما يسمى 8 آذار الذي انتج حكومة حسان دياب. حكومة أسقطها عملياً الفريق نفسه (قبل استقالتها إثر انفجار مرفأ بيروت)، لأنها وضعت إصبعها على الجرح عندما حاولت توزيع الخسائر، وتجرأت اقتراح تحميل مصرف لبنان والمصارف قسطاً من تلك الأعباء الجسيمة الناتجة عن أخطاء وخطايا السياسات النقدية والمصرفية. أسقطوها أيضا لأنها حاولت تحميل المنظومة السياسية الفاسدة قسطاً من المسؤولية مع يستتبع ذلك من تحميلها لجزء من الخسائر بطرق مختلفة منها طلب التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان والدولة بمختلف وزاراتها وإداراتها وهيئاتها ومجالسها وصناديقها. وما التظاهر الآن بالسير في التدقيق الا لذر الرماد في العيون الى حين كما بات معلوماً للعالم والجاهل.
أسقطت نفس الطغمة مقترح قانون ضبط التحويلات إلى الخارج (الكابيتال كونترول) حتى تُهرّب ما تيسر من ثرواتها. ثم أطلقت يد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة للقص الإجباري، غير القانوني واللاأخلاقي، من ودائع الناس العاديين بينما تركوا للمحظيين النافذين حرية الضغط والمناورة والتحايل للحصول على ما يستطيعون الحصول عليه.
أمعنوا في النهب عندما أوهموا الناس أن هناك دعماً للسلع والمواد الأساسية، لكنهم سيّطروا بشكل مباشر وغير مباشر على جزء غير يسير من أموال الدعم عبر شركاتهم واحتكاراتهم وشراكاتهم مع مافيات تجار المحروقات والدواء والغذاء. أنفقوا على الدعم أكثر من 10 مليارات دولار في 20 شهراً، ولم تتحسن أوضاع الناس بل إزدادت سوءاً، بينما حققت المافيا السلطوية مع التجار والمهربين والمُخزنِين الاحتكاريين القسط الأكبر من ذلك الدعم، إذ يكفي النظر إلى قائمة التجار والمستوردين الذين سمح لهم الحصول على الدولارات المدعومة (1500 ليرة للدولار) لنعرف من أسمائهم ارتباطاتهم مع زعماء ائتلاف الطوائف النافذين بلا استثناء. فمن جهة هربوا مليارات الى الخارج ومن أخرى سرقوا مليارات الدعم. كل ذلك هرباً من التوزيع العادل للخسائر وليستطيعوا الاستعواض قبل الانهيار الشامل.
إنفضح إتفاقهم المافيوي الضمني (على صنوبر بيروت) في لجنة المال التي يرأسها ابراهيم كنعان عرّاب إسقاط خطة “لازار”. ففي تلك اللجنة نواب ينتمون إلى كل الكتل السياسية بلا إستثناء، توّلوا إخراج “تهريجة” أرقام تدحض ما توصلت اليه “لازار” لجهة حجم الخسائر وكيفية توزيعها على مصرف لبنان والمصارف وكبار المودعين أولاً، علماً بأن صندوق النقد الدولي، وباعتراف وزير المال غازي وزني، كان موافقاً على خطة حكومة دياب وما تضمنته خطة “لازار” من أرقام واقعية يُبنى عليها برنامجٌ اصلاحيٌ انقاذيٌ ممكن التطبيق، فاذا بالنائب ابراهيم كنعان (ممثل الأوليغارشية بامتياز) ينسف البديهي و”يجهبذ” لمنطق محاسبي مضاد مخالف لمفهوم التوزيع العادل للخسائر، فطار التفاوض مع صندوق النقد متاثراً أيضاً باستقالة حكومة دياب. وعندما كانت حكومة حسان دياب تتوخى الحصول على 5 مليارات من صندوق النقد كانت الطبقة السياسية والمصرفية والتجارية الحاكمة تهدر وتنهب 10 مليارات عبر تهريب الأموال واستغلال الدعم.
ولأنهم شركاء حاكم مصرف لبنان والمصارف، غضوا الطرف، لا بل باركوا إنكاره “السكيزوفريني” للتعثر المصرفي، إن لم نقل الإفلاس المصرفي. فمعظم التقارير الدولية سواء من مؤسسات التمويل أو التصنيف الائتماني تُجمع على أن القطاع المصرفي اللبناني، وبتطبيق المعيار المحاسبي الدولي رقم 9 ومعايير بازل 3، هو قطاع شبه مفلس ويحتاج إلى إعادة هيكلة سريعة وإلا فلا نهوض للإقتصاد ولا قيامة للدولة. أما البنك الدولي فذهب أبعد من ذلك عندما إتهم السياسات النقدية والمصرفية بإفقار المجتمع للحفاظ على مكتسبات طبقة معينة من المصرفيين والسياسيين.
لذا نراهم يتصارعون على حجز مقاعد متقدمة تحضيراً للمزاد الرخيص بعدما إنهارت الليرة متيقنين أن لا مستثمر أجنبياً يدخل البلاد من دونهم، وأن لا مصارف إلا التي لهم فيها حصة أو نفوذ، ولا تعيينات إلا لأزلامهم، ولا مقاولات إلا لحاشيتهم. أما اكذوبة الإصلاح فلا تنطلي على أحد
وتوازياً، أسقطوا تنفيذ قانون مكافحة الفساد في القطاع العام الذي صدر قبل سنة ولم ينفذ أي بند فيه حتى الآن لأنهم يسيطرون على القضاء ويتوزعون مناصبه العليا في توازن رعب رهيب يمنع التقدم قيد أنملة نحو محاسبة أي واحد فيهم أو محسوب عليهم.
إلى ذلك، هزئوا من كل محاولات إسترداد الأموال المحولة إلى الخارج، ومن أحاديث الكشف عن الذمم المالية وأسئلة “من أين لك هذا يا هذا”. وتركوا على رأس حاكمية مصرف لبنان رجل متهم دولياً بالإختلاس وتبييض الأموال، تارة بحجة الحفاظ على الإستقرار النقدي الذي انفجر وتناثر هباء منثوراً، وطوراً لخلاف على خليفته في صراع بين ديوك مزابل التحاصص، ثم يأتيك من يقف مكتوف الأيدي مدعياً أن سلامة محمي أميركياً كما لو ان تلك الحماية شهادة براءة أو قدس أقداس لا يمس، أو إذا أقيل سنشهد الأسطول السادس الأميركي على شواطئنا. والسؤال: كيف بهم أنفسهم يهزأون من العقوبات الأميركية أو يهضمونها بسلاسة إذا طالتهم من جهة، ويهابون تبعات إقالة سلامة من جهة أخرى. وما ذلك الانفصام إلا لغاية في نفس يعقوب حتى تستمر اللعبة إياها برعاية سلامة نفسه.
وإذا كان لا بد من أمثلة إضافية على تواطؤ الطغمة برغم ظاهر تناقض أقطابها، هناك إغفال متعمد لكل محاولات إسترداد الأملاك البحرية وغير البحرية المستولى عليها منهم ومن أتباعهم أو مموليهم والمحسوبين عليهم. وجميعهم ترك ويترك حبل الجمارك والمعابر على غاربه للمهربين المعروفين سواء عبر السلسلة الشرقية أو المطار والمرافئ، ولا ينصبون أي شبكة فاعلة مستدامة الردع لإصطياد المتهربين من الضرائب والرسوم، بينما القوى الأمنية التي بأمرتهم تستطيع ضرب المتظاهرين وإطلاق الرصاص عليهم وإطفاء عيونهم. وبعضهم أفسح مجال التعدي على المتظاهرين وتعنيفهم أمام أعين كاميرات العالم كله من دون أن يرف له جفن. وبعدما اتهموا بعضهم البعض بتحريك الشارع، أجمعوا من أقصى يمينهم إلى أقصى يسارهم على رفض مقولة “كلهن يعني كلهن” وحاربوها لإسقاطها نهائياً من قاموس الحراك الشعبي المراهق والذاكرة الجماعية الراشدة.
هذه هي الطبقة الحاكمة في لبنان. فبعدما شهدت سنوات ما بعد الطائف إلى العام 2019 صراعات دامية على غنائم الازدهار بالنهب المنظم حتى أفلست الدولة، ها هي اليوم “تستشرس” في صراعات يراهنون فيها على الآتي من مغانم الانهيار. كلهم يعلم أنه لا مفر من بيع أصول الدولة لسداد الديون ولجم العجز في الموازنة. لذا نراهم يتصارعون على حجز مقاعد متقدمة تحضيراً للمزاد الرخيص بعدما إنهارت الليرة متيقنين أن لا مستثمر أجنبياً يدخل البلاد من دونهم، وأن لا مصارف إلا التي لهم فيها حصة أو نفوذ، ولا تعيينات إلا لأزلامهم، ولا مقاولات إلا لحاشيتهم. أما اكذوبة الإصلاح فلا تنطلي على أحد، إذ كيف لمن مصّ ولحس موارد الدولة لعقود حتى افلاسها أن يهبط عليه وحي الأخلاق والحوكمة الرشيدة فجأة اليوم؟