اختصاراً وعلى وجه السرعة، كان ينده لي “تايب”. فأجيب بكل تواضع، وأمضي حوله كملكة متوّجة. يقدر وسام أن يشعرنا بأننا ملكات متوّجات حوله، ويكون هو سنداً وحصناً ورفيقاً ونديماً بلا تعب كثير، بلا تعبٍ أبداً، بسلاسة شرب الماء. وسام هو رجل محترم جداً، من العمق إلى السطح.
وهو زميلي وابن جيلي. اشتغلنا سوا في “السفير”، وكنا سوا يساريين نقديين، هو الحزبي وأنا “بتاعت المجموعات المستقلة”. كنت مسؤولة ملحق “شباب” في “السفير” لما، بعد جلسة سمرٍ معه، أقنعته بأن يكتب نصاً ذاتياً يروي فيه تجربته كشاب انتقل من اللاهوت إلى الحزب الشيوعي. كتبه، وأحب وسام هذا المقال، هو قال لي ذلك مراراً، ونوّه بقدراتي على الإقناع، طبعاً لينوّه بصوابية اختياره لي كـ”التايب”.
وسام هو زميلي وابن جيلي، وهو مغناطيس. في ليلة المصارف، عدتُ إلى الشارع صوب الواحدة بعد منتصف الليل، في محيط مصرف لبنان، فوجدته مع كاميرته التي لا تفارقه منذ كانت هواية. الشارع شحبار، والدخان في كل مكان، والصراخ والعسكر والذي منه، أما زاوية وسام فبدت – كالعادة – آمنة رحبة مبتسمة، كالمغنطيس تشدّ أصحابه وأحبابه. بقيت واقفةً حوله طوال الليل حتى الفجر، يذهب إلى حيث المعركة فألحق به، يعود إلى حيث التقاط النفس فأعود بتسليم. وقضينا الليل نتبادل التحليل حول ما يجري، بين بحر نكاتٍ باللهجة المصرية هو يلقيها وأنا بالكاد ألحق الضحك عليها. وتأتي لدغته الخفيفة في اللفظ، مع عينيه الزرقاوين الآسرتين، لتبني فقاعةً حولنا: الحديث مع وسام دائماً يخفينا عن الواقع المحيط بنا في رداءٍ غير مرئي من المرح والخفة. لا يقلّل من شأن ووطأة ما يجري، لا يقصّر في أيّ وظيفةٍ مهما كانت ثقيلة أو متعبة، ولكنه لا ينسى انسانيته فيها، بكامل اتساعها. هناك شيءٌ ما في وسام لا يخطئه من يعرفه، يساعدك على التفرّج على الحياة وهي تمضي، على طريقة “أراقب الأوان وهو يفوت”، بدلاً من الانسحاق تحتها.
الحديث مع وسام دائماً يخفينا عن الواقع المحيط بنا في رداءٍ غير مرئي من المرح والخفة. لا يقلّل من شأن ووطأة ما يجري، لا يقصّر في أيّ وظيفةٍ مهما كانت ثقيلة أو متعبة، ولكنه لا ينسى انسانيته فيها، بكامل اتساعها
التزامه بقضايا العدالة ثابتٌ وحاسم، لكن نكاته خلال هذا التعامل نادراً ما تذوي. لا يعترف بأن “للجدّ وقته وللضحك وقته”. يسخر من هذه المقولة لما يقولها أحدٌ له. لا يجد أن الضحك يخفّف من وطأة الأشياء، وهو في ذلك شخصٌ فريد. بالعكس، وسام يستخدم اللمبي ليجيب عن سؤال حول السياسة الروسية، ويصيب! هذا لا يعني أني لا أرى وسام أمامي الآن في لحظاته الجدية، لما يعبس ويبقى وجهه شَرِحاً لأن عينيه تفتحان الأفق. لما يحكي بشكلٍ جدّي وبلا ابتسامة، يأتي كلامه باللهجة اللبنانية الصرفة، ويؤخذ فوراً على محمل الجدّ. قد لا يطيل العبوس، لكن المعنى وصل.
وسام، زميلي وابن جيلي، هو كالمغنطيس لمن تعرف إليه ولمن يحبه، لا يمكن أن تجده في زاوية أو مطعم أو شارع من دون الاتجاه بلا تفكير نحوه ورشقه بقبلة. في ليلة المصارف، تركته لما همّ بالرحيل وعدت إلى بيتي، كلّي شحبار وفي رأسي ضجيج وفي أنفي وعيوني غاز، وعلى وجهي ابتسامة تملأه راحة. دوّنت بعض تحاليلنا ومعلوماته، وصرفت الأسبوع اللاحق أبني عليها وأستعمل اسمه حيث سمح لي بكشف المصدر. هذا كله، بابتسامة تبقى ثابتة كلما أذكره. هذا أثر وسام عليّ. “التايب” لازم تكون دايماً مبسوطة. هكذا كان يقول لي، وهو يكرر ما يقوله دائماً، فلم يخطئ مرة على مرّ 20 سنة ونده لي “سحر”. دائماً، “التايب”، مهما بلغ الموضوع جدية، كتنسيق صفحة جريدة أو نقاش إثر اغتيال.
ابن جيلي، أول الراحلين منا. استعجل كما يقول الجميع، وهو دائماً يهمّ بعجلة إلى أي شيء يسعى نحوه. ليس متباطئاً ولا يتلكأ. تلك حركة جسمه، تتسع لكثير الإخلاص ولا تتسع للتلكؤ. فيردّك أحياناً عنه لما تأتيه بقبلة لأنه عرقان. وكثيراً ما يكون عرقاناً. إذ كثيراً ما يكون ناشطاً. هل من إنسان يعرفه وشارك في أي تظاهرة أو موقف خلال السنوات الماضية، منذ أقفلت “السفير” وتوقف وسام عن “شغل المكتب”، ولم يجده هناك؟
أبكي منذ الصباح وأود أن أبتسم وأملأ وجهي بعينيك الزرقاوين وصوتك الذي يرمي النكات تباعاً قبل أن يقول “جملة مفيدة”. هذا الشاب، زميلي وابن جيلي، لم أفكّر يوماً مرتين بعلاقتنا، بل مضت بسلاسة كشرب الماء. حبّه بدا لي بديهيّاً، فهو شديد الدفء بكامل حضوره، وشديد الأمان بكامل سخريته. دائماً كان كذلك معي، ودائماً سيبقى كذلك لي. فأنا “التايب تاعه”. وهو أول الراحلين منا.