وحياة يلّي راحوا..!

"أتذكرين ما فعله ياسر عرفات، بُعيد حرب السنتيْن؟"، سألني صديقي أثناء نقاشٍ لنا حول خفايا كواليس السياسة والسياسيّين. "كلا. كنتُ صغيرة في تلك الفترة"، أجبتُه. فتابع يروي الواقعة: "مرّةً، إتّصل أبو عمّار بكميل شمعون رئيس الجبهة اللبنانيّة. ليطلب منه أن تقصف قوات الجبهة بيروت الغربيّة"!

“معقووووول؟”، سألتُه مصعوقة. أجابني بحركةٍ من الرأس، وتعني “نعم”. وأكمل أنّ خطوة عرفات، الذي كان يذبح بظفره في ما كان يُعرَف بـ”بيروت الغربيّة”، كانت لطلب النجدة من قوى “اليمين اللبناني”. كان يحتاجهم، يومذاك، لتعطيل المؤتمر العامّ لحركة “فتح”. واستطراداً، لإلغاء الانتخابات المقرَّرة داخل الحركة. لماذا؟ لغايةٍ في نفس عرفات.

هذا السلوك، إعتدنا أن نسمّيه في بلداننا المتخلّفة “تكتيكاً سياسيّاً”. أو أحد متطلّبات “العمل السياسي”. بينما هو، في مفهوم العلوم السياسيّة، شيءٌ مختلف تماماً. هو شكلٌ من أشكال التآمر. ذاك الذي يُتقنه، في العادة، زعماء المافيا. بحيث تصبح السياسة، مع هذا “التكتيك”، لامبدئيّة. لاأخلاقيّة. ولا تنفع معها، بالتالي، أدوات تحليل الصراعات السياسيّة التقليديّة.

سلوك ياسر عرفات المافياوي، يصلح تعميمه على غالبيّة ساسة لبنان. فهو السلوك الذي يُمارَس، تحديداً، تحت جُنْح الظلام. في الخفاء. وبطبيعة الحال، من دون معرفة الموالين والأتباع والأذناب به. لكنّ جهلهم هذا، لا يمنعهم من الترويج لذلك السلوك. من الدفاع المستميت عن صاحبه. أي زعيمه. من التخوين المستميت لمُنتقديه. أي خصوم زعيمه. يرمي السلوك المافياوي، غالباً، إلى تمويه عملٍ جرميٍّ ما. وبالتأكيد، إخفاء هويّة مرتكبه الحقيقي. قد يكون جريمة من الصنف العادي. أو من الصنف غير العادي. أو من الصنف فوق العادي. كالمجازر والإبادات والجرائم ضدّ الإنسانيّة. أي، مثل جريمة التفجير الكيميائي لمرفأ بيروت.

هل يجد المافياويّون أهمّ من لبنان مختبراً لشتّى صنوف جرائمهم؟ كلا. وأبرع من سياسيّي لبنان لاستيلاد هذه الجرائم؟ كلا. وأعهر من معظم نوّاب لبنان وقُضاته وحُماة طوائفه للدفاع عن المرتكبين؟ كلا. وأكثر حريّةً من مجرمي لبنان، ليسرحوا ويمرحوا على أطلال مواقع جرائمهم؟ كلا وألف كلا. ونعود إلى موضوعنا الأساسي. إلى تآمر حُكّام لبنان وسياسيّيه، على الطريقة العرفاتيّة. ما مناسبة هذا الكلام اليوم؟

ليس اقتراب الذكرى السنويّة الأولى لتفجير 4 آب. فلقد أعلنّاها مذّاك، نحن اللبنانيّين، وبالفم الملآن. كلّ يوم في روزنامة حياتنا، “4 آب”. المناسبة هي المساحة المركزيّة التي يشغلها الدجل السياسي، هذه الأيّام، في الجدال العامّ في لبنان. دجل، خلفيّته هي السلوك التآمري المافياوي الذي بدأنا به هذه السطور. دجل، يخفي التناقض الفاقع بين السيناريو الذي يكتبه سياسيّو لبنان في الخفاء. وبين ما يقدّمونه في المسرحيّات الهزليّة التي يلعبونها، وبأداءٍ ركيك، على الخشبة السياسيّة. هم يعتقدون أنّ الجمهور المتفرّج سيصفّق لهم، إعجاباً، بأدائهم. مثل جمهور أزلامهم.

الحكومة الميقاتيّة الموعودة هي، إذاً، مسرحيّة الموسم الجديد للطبقة الحاكمة. كانت عروضها المكثّفة قد بوشرت في 2019. أي، عندما وضع أركان السلطة كلّ ثقلهم لإفشال الثورة والدولة. لتفكيكهما. لتشتيتهما. لجعل لبنان بلداً غير قابل لا للحياة ولا للموت، أيضاً

يوم الإثنين الفائت (26 تموز/يوليو)، بدأ عرضٌ جديد لمسرحيّة الحكومة. كُلِّف “زويّك”، أي الملياردير الطرابلسي نجيب ميقاتي، لتشكيل حكومة. بعدما تراجع “حويّك”، أي الملياردير الصيداوي المُفلِس سعد الحريري. أتى “زويّك وحويّك”، فأدبر “حويّك وزويّك”. ومفاد هذا التعبير، أنّ “قادة” لبنان لا يؤمنون بـ”تداول السلطة”. عجباً، يقولون. فما الحاجة إلى هذا التداول، طالما أنّ الله قد أنعم على اللبنانيّين بحفنة أشخاصٍ ونفخ فيهم الروح ليكونوا حُكّامهم المُفدِّين إلى أبد الآبدين؟ ولمَن لا يعرف، فإنّ هذا التعبير إبتدعه رئيس برلماننا، والمعروف عنه عشقه لمبدأ تداول السلطة!

مسكينة سلطتنا. ليس لديها بديل عن وجباتها المعهودة. لا تستطيع أن تقدِّم للشعب، إلاّ الـ menu ذاته. دائماً ودوماً وعلى الدوام. وجبات نتنة، توضع على موائد اللبنانيّين الفارغة في زمن العوز والجوع. أمّا سبب نتانتها، فهو بقاؤها طويلاً في الثلاّجات المنقطع عنها التيّار الكهربائي. لكن، ليس عندنا في البلد إلاّهُم. سبحان الله! تشكيلات من السياسيّين المقنّعين، مُعَدَّة وفق مواصفاتٍ معيّنة. مخصَّصة لخلق الأزمات. مدرَّبة على تضييع الوقت. منذورة لعدم إيجاد حلول لتلك الأزمات. ومكلَّفة بإعلان العجز عن إيجاد تلك الحلول. هو الدجل إيّاه (آنف الذكر). يتظهَّر للعامّة عبر معزوفة النوايا الطيّبة على الربابة. معزوفة تشدِّد على الحاجة لمباركةٍ شعبيّة. “أنا بحاجة إليكم أنتم. إلى ثقتكم. ثقة الناس”. قالها الميقاتي بشيءٍ من التأثّر. فألهب فينا العواطف. كادت الدموع المالحة تنهمر من عيوننا. كادت تفرّ من محاجر تلك العيون التي اقتلعتها “قوات التدخّل السريع” المتحصِّنة حول مقرّ البرلمان!

الحكومة الميقاتيّة الموعودة هي، إذاً، مسرحيّة الموسم الجديد للطبقة الحاكمة. كانت عروضها المكثّفة قد بوشرت في 2019. أي، عندما وضع أركان السلطة كلّ ثقلهم لإفشال الثورة والدولة. لتفكيكهما. لتشتيتهما. لجعل لبنان بلداً غير قابل لا للحياة ولا للموت، أيضاً. لصلبه على خشبة عذاباتنا. حاليّاً، يراهن كلّ ركنٍ من الأركان على صفقة. يسمّيها تسوية. لعلّها تعيد ضخّ الحياة في المنظومة المتداعية. في النظام المأزوم. إنّها ذهنيّة التاجر، يا أصدقاء. فبعدما صار الفشل حليفهم الأساسي، تركَّز طموحهم على كيفيّة إعادة الرَسْملة الماديّة والسياسيّة والطوائفيّة لكياناتهم. يطمحون إلى أن يبقوا في مشهديّة السلطة والحُكم. أن تعيدهم صناديق الاقتراع إلينا. فممنوع، منعاً باتّاً، أن يُعاد إنتاج سلطةٍ جديدة من دون وجوههم الكالحة! كيف تصرّفوا؟

إقرأ على موقع 180   إسرائيل لـ"حقنة" ضد "عناد نصرالله".. غير متوفرة!

أطلقوا كلمة السرّ: “ضيّعوا الوقت بانتظار غودو”. لكن في سياق فشلهم المدوّي، ارتجّت الأرض تحت أقدامهم. زلزالان لم يكونا في حسبانهم. ثورة 17 تشرين وتفجير 4 آب. إنّها صدمة عمرهم التافه. أسوأ كوابيسهم. ما العمل؟ “وجدناهااااا”، صرخوا. وشرعوا بتنفيذ المخطّط الجهنّمي. حمّلوا اللبنانيّين، مقيمين ومغتربين، خسائر فشلهم. وانسحبوا من الصورة. ثمّ بدؤوا مسرحيّة خلافاتهم الكاذبة. عنوان المسرحيّة هو “اتّفقنا على ألاّ نتّفق”. راقبوا كيف وزّعوا الأدوار: فلان يوعز لجماعته ليصرخوا “شيعة شيعة”؛ وفلان ينشد موّال المظلوميّة وضياع “حقوق المسيحيّين”؛ وعلاّن يشكو ويحذّر من تداعيات “النيل من الموقع السنّي الأوّل في لبنان”؛ ولا ينسى آخرون تكرار لازمة “وحدة الجبل”…إلخ. وطبعاً، القوّة الأقوى الفائضة بفائض القوّة، أي “حزب الله”، فهو تولّى باكراً إفراغ ساحات الاحتجاجات من المحتجّين. تارةً، برفع إصبع التخوين بالتبعيّة لأجندات السفارات. وطوراً، برسم اللّاءات الحمراء المحذّرة من المساس بمنظومة الفساد والإفساد. سيذكر التاريخ فساد حُكّامنا، حتماً. لكنّه سيذكر ضعفنا، أيضاً. بندٌ ثالث في الخطّة الشيطانيّة لأركان السلطة، ما هو؟

منذ 361 يوماً، يستشرس “المستبيحون” إيّاهم ليبرهنوا أنّ كارثة المرفأ لم تكن أكثر من حادث سير. فلِما كلّ هذه الجلبة بشأنها؟ “وحياة يلّي راحوا وصاروا الحنين..”، سيعلِّمكم هذا الشعب ما لا تعلمون

يومَ هدّدنا العدوّ الإسرائيلي بإعادتنا إلى القرون الوسطى، لم يخطر ببالنا، أبداً، أنّ التنفيذ سيكون على يد حُكّام لبنان! غرقنا ولم ينتبه أحدٌ لغرقنا، نحن الذين ظهرنا بمظهر الناجي، دوماً. نعيش بحبوحةً وهميّة. نخطّط، بسخاء، لمستقبلنا. وطننا يحميه جيشٌ محبوب وموحَّد. سيادتنا تصونها مقاومة، قهرت قاهر العرب الذي لا يُقهَر. طاقاتنا مهولة. خبراتنا تُرفَع لها القبّعات. لكنّنا للأسف، لم نكن نعرف ما كان يحيكه المافياويّون في الخفاء. إخراج الأحصنة للحرث وإخراج الحمير للسباق. فخسرنا المحصول وخسرنا السباق! وبعد؟

يقول الروائي البريطاني جورج أورويل إنّ “السلطة هي تمزيق عقول البشر إلى أشلاء، ووضْعها مرّةً أخرى في أشكالٍ جديدة”. السلطة في لبنان، إكتفت بتمزيق عقول اللبنانيّين. وعلى الرغم من غبائها وحماقة شاغليها، غير أنّ جينات الإجرام في خلاياها نبّهت المعنيّين إلى أنّ مَن يغيّر في المجتمعات هي، حصراً، الطبقة الوسطى. النخب. فالمسحوق، كما يُخبرنا التاريخ، لا يغيّر. قد يعترض ويرفض، لا أكثر. أو ربّما ينتحر، إنتقاماً لوجعه وذلّه وجوعه. والثري لا يغيّر، لأنّه يمتلك كلّ شيء. أمّا المستفيدون (من الأتباع)، فهؤلاء مستعدّون لقمع وقتْل وسحْل أقرب الناس إليهم. كُرمى للزعيم وفُتات مساعداته. شلّعت عصابات السلطة، الطبقة الوسطى في لبنان. وتفرّغت (منذ 17 تشرين بخاصّة) لإذلالها في الطوابير وتجويعها وتهجيرها. الأذلاّء والجوعى والمهجَّرون لا يصنعون الثورات. ألَمْ يقلها كارل ماركس الذي تقضّ “نظريّاته” مضجع عصابات الحُكم هذه الأيّام؟ بلى. فها هم يحاضرون بعفّتهم، ويشيطنون “الرفيق” ماركس. محذّرين من “سيطرةٍ شيوعيّة” على النقابات والحراكات الاجتماعيّة!

نعود إلى مسرحيّات السلطة الهزليّة، وآخرها حكومة ميقاتي. نحن اللبنانيّين الرافضين لكلّ حكوماتهم، لم نصفّق لها. ولن. لقد نسينا التصفيق، أصلاً. ربّما كان تصفيقنا للأطبّاء والممرّضين، في عزّ موجة الكورونا، آخر تصفيقاتنا. فالتصفيق بمعظمه يكون للفرح. ونحن هجرتنا الأفراح. مذْ تاهت قلوبنا الشاحبة ولم يبقَ بيتٌ به فرح، كما يعبّر الشاعر مظفّر النوّاب الذي رشح قلبه قهراً على مآسي العراق. نحن لا نصفّق، أيضاً، لأنّنا في حداد. حداد على موتانا الذين يقطفهم الموت قطفاً. على شهدائنا الذين سقطوا في ساحات تشرين على يد “أَمْنَجِيّي” السلطة. وفي شوارع الذلّ، إمّا انتحاراً أو نحراً. حداد على ضحايانا الذين فجّرتهم عصابات السلطة بنيترات الأمونيوم. إمّا ضلوعاً مباشراً أو إهمالاً. بالنسبة إلينا، كلّهم مجرمون. مَن خطّط وموّه ونفى علمه ونفى مسؤوليّته وسهّل و… كلّهم مخضَّبون بدماء الضحايا. لا فرق بين مجرمٍ ومجرم.

كلمة أخيرة. لقد أعدم حُكّامنا وسياسيّو أحزاب السلطة “العمل السياسي” في لبنان، منذ زمنٍ طويل. لكنّهم، منذ عقديْن تقريباً، باتوا يستبيحون الدولة والوطن. مثلما تستبيح الكلاب والقطط الشاردة شوارعنا، وتحوم حول براميل القمامة. ومنذ 361 يوماً، يستشرس “المستبيحون” إيّاهم ليبرهنوا أنّ كارثة المرفأ لم تكن أكثر من حادث سير. فلِما كلّ هذه الجلبة بشأنها؟ “وحياة يلّي راحوا وصاروا الحنين..”، سيعلِّمكم هذا الشعب ما لا تعلمون. رغم استسلامه الظاهر. رغم رائحة التفتّت التي تفوح منه. ستعرّيكم الساحات عُرياً فوق عُريكم. ستُفهِمكم أنّ التاريخ لا يُكتَب بحبر مجرمين. والأرض لا تُحرَث بالهوان. والعدالة لا تُحرَس بالحصانات. إقتضى أن تفهموا يا…!

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  دراسة إسرائيلية: بين روسيا والناتو أين تقف تل أبيب؟