أولاً؛ نظرياً، لبنان ليس بحاجة لقرض من صندوق النقد قيمته المرجوة بين 4 و8 مليارات دولار. فالمتاح للبنان من احتياطات حالياً يزيد على 30 مليار دولار بين ما تبقى من عملات أجنبية في مصرف لبنان وقيمة مخزون الذهب. لكن الخوف، كل الخوف، من طريقة ادارة هذه الاحتياطات وتبديدها وسوء استخدامها بكثير من الهدر والفساد جرياً على عادات 3 عقود أورثت ديناً عاماً بلغ 100 مليار دولار اضافة الى إهدار 100 مليار من ودائع الناس. لذا، يرى المتحمسون لاتفاق مع صندوق النقد فرصة لتطبيقات جديدة تحت نظر أعلى سلطة نقدية في العالم، لعل وعسى يتوقف العبث المالي الذي ساد عقوداً، بحيث يضبط عجز الموازنة وتزيد انتاجية القطاع الحكومي ويلجم نمو الدين العام ويصلح قطاع الكهرباء في موازاة الغاء دعم تعرفته أثقلت كاهل الموازنة وهدرت احتياطات العملة الأجنبية بعشرات مليارات الدولارات.
ثانياً؛ ما يختلف عليه اللبنانيون لتشخيص الأزمة واسبابها ووضع خطط لعلاجها ليس بالأمر اليسير تجاوزه. وللمثال، من التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، الى اقرار قانون لضبط التحويلات (الكابيتال كونترول)، مروراً بهيكلة القطاع المصرفي.. قضايا شائكة تثير النزاعات الحادة والمصالح المتضاربة.
من هنا يأتي بعض جدوى الاتفاق مع صندوق النقد الذي لن يرضى بأقل من توزيع الخسائر المقدرة بنحو 100 مليار دولار، قبل منح اي قرض انقاذي، وضبط التحويلات كي لا تتسرب دولارات قروض الصندوق الى الخارج، وللحد من تهريب الدولارات التي يحولها المغتربون والجهات المانحة الى لبنان فضلاً عن دولارات قروض أخرى موعودة من برنامج “سيدر”. فأي انقاذ يشترط ضبط الدولارات في الداخل لفترة من الزمن، ومنع تسربها الا للضرورة القصوى. فلا علاج ينفع اذا بقي ميزان المدفوعات عاجزاً واستمر الاستيراد مفتوحاً على مصراعيه، فيما يسرح الرأسماليون ويمرحون بلا قيود على تحويلاتهم.
الاتفاق مع الصندوق يسمح بعودة لبنان الى اسواق المال الدولية بعد تسوية سداد مخفض القيمة مع حملة سندات “اليوروبوندز” التي توقف لبنان عن سدادها في آذار/مارس 2020، والا سيواجه لبنان قضايا دولية ضده تعقد مساعي الخروج من الأزمة
ثالثاً؛ بات الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وفقاَ لشروط الدول المانحة والجهات المقرضة، الممر الالزامي للحصول على قروض “سيدر” المقدرة بـ11 مليار دولار مخصصة للانفاق الاستثماري والتنموي. والأهم من ذلك ان الاتفاق مع الصندوق يسمح بعودة لبنان الى اسواق المال الدولية بعد تسوية سداد مخفض القيمة مع حملة سندات “اليوروبوندز” التي توقف لبنان عن سدادها في آذار/مارس 2020، والا سيواجه لبنان قضايا دولية ضده تعقد مساعي الخروج من الأزمة.
رابعاً؛ يتخبط لبنان حاليا في تعددية لأسعار صرف منهكة للاقتصاد تحول دون انتظام الاستثمار والاستهلاك والادخار والايداع والاقراض والائتمان. واذا كان بين شروط الصندوق تعويم سعر صرف الليرة مقابل الدولار، فهذا الأمر تحقق بأكثر مما توقعه الصندوق. والآن يجب توحيد تلك الأسعار التى بلغ عددها 8 راوحت نسبة الفارق بين ادناها واعلاها ألف في المائة أحياناً. ودون ذلك التوحيد معضلة إجبار المصارف على تحمل خسائر منيت بها وتريد تحميلها للمودعين والدولة فقط. وهنا أيضاً لن يقبل الصندوق ممارسات قام ويقوم بها مصرف لبنان منذ سنتين الى اليوم. وهذه المعضلة ستطرح أمام وزير المالية الجديد يوسف الخليل الآتي من صميم سياسات رياض سلامة وهندساته نقدياً ومصرفياً ومالياً.
خامساً؛ ما الذي تغير بالمواقف التي اتخذت ضد حكومة حسان دياب وتفاوضها مع صندوق النقد؟ فتلك المحاولة أجهضت، في جانب أساسي منها، في لجنة المال والموازنة النيابية التي رفضت أرقام حكومة دياب الخاصة بالخسائر. علماً بأن تلك الأرقام كانت قريبة من حسابات صندوق النقد. لا بل أثنى الصندوق على المقاربة الحكومية للأزمة وحلولها آنذاك. والفخ يكمن دائماً في تلك اللجنة التي تضم معظم الأطياف الطائفية والسياسية الممثلة في الحكومة الجديدة، وفيها النائب نقولا نحاس الذراع الاقتصادي الأيمن للرئيس ميقاتي، وعلى رأسها النائب (العوني) ابراهيم كنعان، وبين أعضائها نواب لحركة أمل وحزب الله وتيار المستقبل والحزب الاشتراكي وغيرهم من ممثلي الأطراف الأخرى.
ويذكر أن تقديرات أرقام الخسائر تفاوتت بين حكومة دياب ولجنة كنعان بنسبة وصلت إلى 300 في المائة. فهل راجعت الكتل السياسية نفسها واعتبرت ان ما قامت بها كان خطأ جسيماً، وهي اليوم مستعدة للاعتراف بالخسائر (معظمها ودائع للناس)، أم أنها ستحاول التشاطر مجدداً مع صندوق النقد وتضيّع الوقت في ممانعات لا طائل منها؟
سلامة وصفير يعولان دائماَ على “حزب المصارف” العابر للأحزاب والتيارات والضاربة جذوره في مصالح هذا وذاك من زعماء الطوائف والمرجعيات السياسية والدينية. فما الذي ستفعله حكومة ميقاتي مع هذا الحزب المتجذر داخلها؟
سادساً؛ الكرة أيضاً في ملعب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الرافض لطريقة احتساب خسائر البنوك ومصرف لبنان المركزي. تعينه في ذلك جمعية مصارف، على رأسها سليم صفير، تعيش الانكار كاملاً، وتعاند كما لو ان الكلمة الفصل تعود اليها فقط في هذا الشأن المصيري لوجودها.
فتلك الخسائر واقعة أولاً في حضن المصارف ومصرف لبنان طالما الدولة توقفت عن السداد واعلنت تعثرها. لكن سلامة وصفير يعولان دائماَ على “حزب المصارف” العابر للأحزاب والتيارات والضاربة جذوره في مصالح هذا وذاك من زعماء الطوائف والمرجعيات السياسية والدينية. فما الذي ستفعله حكومة ميقاتي مع هذا الحزب المتجذر داخلها؟
سابعاً؛ في مقابل “حزب المصارف”، هناك أشاوس من نوع آخر يعارضون بشدة شروط صندوق النقد التقشفية. وهم ممثلون بقوة في حكومة ميقاتي، ولهم أوزان تثقيل في القرارات الاقتصادية. وهؤلاء، مثل حزب الله على سبيل المثال، ضد الخصخصة وضد زيادة الضرائب والرسوم وضد المساس بالموظفين والمكتسبات الاجتماعية (ماذا بقي منها أصلاً؟).
إذاً، علينا ان نتخيل الصراع بين ليبراليين واشتراكيين اذا صح التعبير، ولو أن صندوق النقد لا يعبأ (لا بل يهزأ) بهكذا توصيفات في لبنان الموصوف بصراعاته الطائفية والسياسية قبل الاقتصادية والاجتماعية.
ثامناً؛ ماذا ستفعل حكومة ميقاتي بشروط لصندوق النقد ستمس حتماً هيمنة السياسيين على المرافق والمؤسسات والهيئات والمجالس والصناديق والإدارات العامة؟ من أين ستخرج الأرانب للحؤول دون فقدان زعماء الطوائف لحصصهم في هذه الدولة المقسومة بين المتسلطين عليها كأنها محتضرة وأصولها توزع على الورثة؟ ومن هنا أتى أيضاً إصرار هذا وذاك على التمثل بفريق التفاوض. فالوكيل ينقل للأصيل أولاً بأول ما يقد يحاك ضد هيمنته على تلك المرافق والإدارات التي لطالما كانت دجاجات تبيض ذهباً.
الطائفة تضم كل المتضاربة مصالحهم، لأنها ليست حزباً بل قبيلة تصح فيها جاهلية “انصر أخاك ظالماً او مظلوماً”. فعن أي المصالح سيدافع الزعيم أكثر عندما تدق ساعة حقيقة الأولويات الإنقاذية التي ستأتي على حساب هذا أو ذاك
تاسعاً؛ من تجارب الصندوق حول العالم تمخضت لديه معرفة بما يريد منه الليبراليون او الاشتراكيون (اليمين أو اليسار) بالمعاني الواسعة للتعريفات، ولا خبرة له بالهيمنات الطائفية على المرافق الاقتصادية. لكنه سيجد حتماً بين ممثلي طوائف لبنان على طاولة المفاوضات معه من هو اشتراكي الهوى بشكل ما، ومن هو ليبرالي او نيوليبرالي التوجه بطريقة أو بأخرى، بالرغم من تمثيله الطائفي. وهنا ستكمن الصعوبة البالغة. ففي كل طائفة نجد ليبراليين ونيو ليبراليين واشتراكيين اجتماعيين اذا صح التعبير.
ففي الطائفة الواحدة مصالح شتى متضاربة. اذ يدخل ديوان الزعيم وتحت عباءته صاحب المصرف والمودع، رب العمل والعامل (او من يمثل العامل او الموظف)، التاجر والمستهلك (أو من يمثل المستهلك من عامة الناس الناخبين)، المحتكر والمستورد والصناعي والمزارع. ونجد بين رواد ديوانه الرأسمالي والمستثمر والمطور العقاري، الى جانب النقابات العمالية والمهنية، وربما نجد مهربين ومحتكرين ومخزنين أيضاً.
الطائفة تضم كل المتضاربة مصالحهم، لأنها ليست حزباً بل قبيلة تصح فيها جاهلية “انصر أخاك ظالماً او مظلوماً”. فعن أي المصالح سيدافع الزعيم أكثر عندما تدق ساعة حقيقة الأولويات الإنقاذية التي ستأتي على حساب هذا أو ذاك؟
عاشراً؛ طريقة تشكيل الحكومة الجديدة أتت على غرار ما كان يحصل منذ إتفاق الطائف الى يومنا هذا بالتحاصص بحثا عن الديموقراطية التوافقية المزعومة. وفيها تمثيل لمعظم الاضداد، وهذه علة من علل النظام الذي لا يعرف موالاة ولا معارضة بالمعنى البرنامجي للكلمة. وينعكس ذلك على البرلمان ولجانه. فالحكومات صورة مصغرة عن المجالس النيابية. لذا أجهضت فكرة صندوق النقد منح الحكومة صلاحيات استثنائية، علما بأن هناك شبه اجماع عند خبراء الصندوق بأن لا تقدم سريعاً سيحصل اذا بقيت رقعة شطرنج السياسات الاقتصادية والمالية اللبنانية على حالها جامعة لأضداد يتناحرون في بوتقة تفاوض واحدة معه.
أحد عشر؛ لا شك في أن شروط صندوق النقد ستأتي ضد مصالح شرائح شعبية واسعة من المجتمع الفقير (82% من السكان بحسب آخر تقرير لمنظمة “الأسكوا”). وذلك من أبواب الضرائب والرسوم والغاء دعم الكهرباء وتقنين نظام التقاعد وترشيد حجم القطاع العام وضبط أجوره. فكيف ستتصرف الاحزاب مع جماهيرها، وكم هي سعة صدر الناخبين وقدرتهم على التحمل، وماذا عن الوقت المطلوب للتضحيات. ولماذا لا يقع عبء التضحية على الأغنياء واصحاب الرساميل والمصرفيين والتجار والمقاولين وتجار العقارات والميسورين البالغة نسبتهم الى اجمالي السكان بين 10 و18% بينما يملكون 70 الى 80 في المائة في المائة من الثروة الوطنية؟.. الى آخر الأسئلة الحقيقية التي ستعيد طرح القضية الطبقية الحقيقية على صعيد البلد عموماً وفي داخل كل طائفة من طوائفه.
إثنا عشر؛ ليس خافياً على كثيرين ان المنظومة الحاكمة تشتري الوقت لعل وعسى “تزمط” من الصندوق، وتعود الى سيرتها الاولى في الاعتماد على معادلات جيو سياسية اقليمية ودولية جديدة قد تسمح لها بالحصول على قروض ومساعدات واستثمارات على الطريقة السابقة إياها والتي اوصلت البلاد الى الكوارث التي وصلت اليها. هذا الرهان حقيقي، لأن تطبيق شروط صندوق النقد يجبر النظام على تغيير معظم آليات عمله ويفقد الزعماء هيمنتهم وسطوتهم وربما تمثيلهم . لذا يكثر الرهان على اجتماعات فيينا بين الأميركيين والإيرانيين وأيضاً على الحوار الايراني السعودي وعودة العلاقات الخليجية السورية والمصالح الفرنسية في المنطقة والانسحاب الاميركي من أفغانستان فضلاً عن رهانات على روسيا من هنا والصين من هناك.. كل ذلك يشكل هروباً من الصندوق وشروطه. لكنه يعيد انتاج وتثبيت المنظومة نفسها. منظومة تشبه ذنب كلب وضع في قالب 40 سنة وبقي ملتوياً!