السودان.. تصحيح المسار أم مفارقته؟

متأخراً جداً، ومرتبكاً جداً.. اتخذ الفريق أول عبد الفتاح البرهان القائد العام للقوات المسلحة السودانية مجموعة قرارات لحل أزمة الشراكة المختلة في حكم الفترة الانتقالية عقب اسقاط حكم الرئيس السابق المشير عمر البشير وحلفائه الإسلاميين.
لم يكن التخلص من عمر البشير سهلاً، بل كان عملية معقدة احتاجت لثلاثة أقساط من التغيير حتى الآن ويتحتم – في تصور مراقبين – أن يكون هناك قسط رابع وأخير لإكمال عملية التغيير في بنية السلطة.
جاء التغيير الأول بإنقلاب النائب الأول للبشير ووزير الدفاع الفريق عوض إبن عوف ومجموعته التي طردت من القصر الرئاسي في اليوم التالي ثم جاء التغيير الثاني بإقالة عدد من الجنرالات أعضاء المجلس العسكري الإنتقالي (عمر زين العابدين وجلال الشيخ الأحمر وصلاح عبدالخالق والطيب بابكر ومصطفى محمد مصطفى) وجاء التغيير الثالث يوم أمس (الإثنين) بحل مجلسي السيادة، والوزراء، ولجنة إزالة التمكين المثيرة للجدل والمختصة بالتحقيق في فساد نظام البشير، إضافة إلى اعفاء وكلاء الوزارات، وإنهاء تكليف حكام الولايات، وبالطبع إعلان حالة الطوارئ.
جاء القرار متأخراً كثيراً عن توقعات الشارع السياسي السوداني الذي كان ينظر على الشراكة بين المكونين العسكري والمدني على أنها شراكة تتم من وراء ظهر الغالبية العظمى من الجماهير. ويضم المكون المدني أحزاب ما يسمى بـ”قوى إعلان الحرية والتغيير”، وهي مجموعات صغيرة متنافرة أفرزت سيطرة أربع مجموعات هي:
-حزب المؤتمر السوداني (تحالف نشطاء بدون هوية أيديولوجية وقادة طلابيون ورجل أعمال ثري).
-حزب البعث العربي الاشتراكي (القيادة القطرية – بعث صدام حسين).
-التجمع الاتحادي (مجموعة منشقة عن الحزب الاتحادي الديموقراطي).
-حزب الأمة (الذي يمر بأزمة عميقة في هويته وتوجهاته بعد رحيل زعيمه التاريخي الإمام الصادق المهدي الذي قاد الحزب وحيداً لأكثر من نصف قرن).
يطلق السودانيون على هذه المجموعة تفكهاً لقب (٤ طويلة) تشبيهاً لها بمجموعات (٩ طويلة) التي تطلق على مجموعات الخطف والنهب والسلب التي تستخدم الدراجات النارية والأسلحة البيضاء، والمتخصصة في خطف الهواتف النقالة وحقائب السيدات.
لا ينتمي رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى أي من هذه القوى لكن تم التوافق عليه بسبب ذيوع اسمه في المنظمات الأفريقية وترشيح الرئيس السابق البشير له لتولي منصب وزير المالية في آخر حكوماته، وهو الترشيح الذي اعتذر عنه حمدوك بعد موافقته الأولية وإعلان اسمه.
رشحت “أحزاب الأربعة” كوادر من النشطاء صغار السن بلا تجارب عملية ولا خبرات وفشل الوزراء وأعضاء مجلس السيادة من مدنيين وعسكريين في أداء مهامهم وتضخم جهاز الدولة وانشغل الوزراء بتوظيف الأقارب (عائلياً وحزبياً) والتشاكس اليومي وتبادل الاساءات والاتهامات حتى جاءت قاصمة الظهر بعد حديث أحد أعضاء مجلس السيادة من الشباب المدنيين بأن مشاركتهم السلطة مع العسكريين يخصم من رصيدهم السياسي واستقامتهم، وهو ما أثار غضب متقاعدي الجيش (وهي مجموعة من الجنرالات ذوي التأثير والنفوذ والاحترام داخل المؤسسة الضخمة) إضافة إلى الضباط في الرتب الوسيطة والذين قادوا انقلاباً ناجحاً في ٢١ سبتمبر/أيلول الماضي بقيادة العميد عبدالباقي بكراوي والذي سيطر على سلاح المدرعات الحاسم داخل الخرطوم وامتنع عن مهاجمة القصر الرئاسي والقيادة العامة للجيش معلناً أن هذه خطوة تحذيرية وقد هرع إليهم الفريق أول البرهان ونائبه الفريق أول محمد حمدان (حميدتي) وحاولوا ارضاءهم، وتعهدوا أمامهم بتصحيح المسار والحفاظ على ما يعرف بهيبة وشرف القوات المسلحة.
البرهان ونائبه حميدتي خلال زيارتهما لقيادة قوات المدرعات عقب محاولة الإنقلاب في أيلول/سبتمبر 2021 ويمكن ملاحظة الحراسة المكثفة جولهما
فيلتمان من لبنان إلى السودان
في لقاء الفريق البرهان الأخير مع المبعوث الأمريكي الخاص لمنطقة القرن الأفريقي جيفري فيلتمان والذي هرع إلى الخرطوم للقاء الفرقاء في ظل الأزمة المستحكمة، استمع الجانب الأمريكي، كما تقول مصادر قريبة من القصر الرئاسي، إلى شرح للغليان داخل القوات المسلحة وملخص تقارير الرصد والاستخبارات التي تقول بأن التغيير في السلطة واستبعاد مجموعة (الأربعة) حتمي سواء بالفريق البرهان او بغيره وهو ما يعني انقلاب جديد يستبعد البرهان نفسه من قيادة الجيش.
هكذا فإن التقارير الصحفية التي تناولت ان عمليات الاعتقال التي شملت عدداً من مسئولي حكومة حمدوك وبعض النشطاء قد أديرت في وجود السفير فيلتمان.
في انتظار المراسيم المقبلة من القائد العام للجيش، يبقى السودانيون في حالة من الترقب والحذر وسط أنباء عن تناقص المخزون من المواد الغذائية والمحروقات، وستكشف هذه المراسيم ما إذا كانت القوات المسلحة تسعى فعلاً إلى تصحيح مسار الفترة الانتقالية أم أنها تحاول بمكر غير مستبعد مصادرة الفترة الانتقالية والمستقبل الذي سيتأسس عليها
وتقول مصادر صحفية واسعة الاطلاع في الخرطوم أن البرهان كان قد قدم يوم السبت (٢٣ الجاري) تنويراً غير معلن في اجتماع تم بناء على  طلب عاجل من الرتب المتوسطة رفعوه في اليوم السابق، وأن البعض قد تحدث بوضوح لقائده العام خلال اللقاء بأن عليه التقدم لقيادة التغيير أو يمكن ان يرفع عنه الضباط الأدنى الحرج بقيادة التغيير بأنفسهم، وهو ما يعني بلغة مهذبة طرده من الخدمة العسكرية.
هكذا لم يكن هناك مناص من التغيير، أما الارتباك فقد بدا من قراءة الجنرال البرهان لخطابه، والأخطاء التي صحبت ذلك قراءة ولغة مما يدل على عدم الضبط والتجويد، إضافة الى عدم صدور مراسيم ضرورية كان ينبغي صدورها في اليوم نفسه بتأسيس السلطة الجديدة الموقتة، حيث لم يصدر حتى الآن قرار بتعيين رأس للدولة أو حاكم مؤقت فيما فقد البرهان منصبه كرئيس لمجلس السيادة بحل المجلس، وليست لديه الآن صفة دستورية أو قانونية لممارسة مهام الرئاسة.
أيضاً تأخر انتشار القوات العسكرية والأمنية في الشوارع لضبط حركة المواطنين وحماية المنشآت، ولم تتم السيطرة كما ينبغي على بعض صفحات المؤسسات الرسمية على وسائل التواصل الاجتماعي مثل صفحة وزارة الثقافة والإعلام التي واصل المحرر المسئول عنها اصدار البيانات باسم الحكومة ومكتب رئيس الوزراء وكالعادة أخذت عنه الفضائيات التي تعتمد معايير متدنية في ضبط الأخبار والتحليلات واعادت بثها بالرغم من معرفتها بأن السيد رئيس الوزراء عاجز عن الاتصال بالعالم الخارجي بسبب وضعه رهن الحجز التحفظي.
وفقاً لخطاب الفريق البرهان، أُقيل جميع الوزراء ووكلائهم، وتم تكليف المدراء العامين للوزارات بتسيير العمل دون الحاق ذلك بمراسيم تفصيلية، فيما أغفل الحديث عن حاكمي إقليمي دارفور والنيل الأزرق اللذين يمثلان مستوى وسيطاً بين الحكومة المركزية وحكومات الولايات وفق اتفاقية السلام الموقعة العام الماضي مع عدد من حركات التمرد المسلحة.
من الواضح أن الفريق البرهان قد أعلن خطوات التغيير مستبقاً أن يكون هو هدف التغيير في حالة تباطؤه، لكن المؤكد أن خطته لتأسيس السلطة الجديدة ليست مكتملة حتى الآن، ومن المستغرب ألا يتم تعيين رأس للدولة ورئيس للوزراء بشكل عاجل لممارسة مهام إدارة البلاد على المستوى التنفيذي، ومتابعة الشئون اليومية والشروع العاجل في تشكيل الحكومة.
في هذه الأثناء، يتوقع ألا تتم أي ادانات دولية ذات أثر يمكن ان يؤدي إلى فرض عقوبات، إذ أن أي خطوة من المجتمع الدولي أو المؤسسات القارية ضد البرهان ستؤدي الى دفع القوات المسلحة والنظامية إلى التكتل معه، والعودة إلى سابق خطابها المعادي للغرب وأمريكا مما يعني تسرب اليمين الإسلامي الى اختطاف مساحة السند المدني والتحالف من جديد مع العسكريين مقابل اليسار السوداني الذي سيعود متشرذماً كما كان إلى ضفة المعارضة.
رفض المتحدث باسم الخارجية الأمريكية وصف ما حدث في السودان بالانقلاب العسكري، وكذلك فعل الاتحاد الأفريقي ويرجح أن تصدر الجامعة العربية بياناً شبيهاً تدعو فيه الشركاء الى التوافق وإلى إطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
قبيل اعلان البرهان للإجراءات الجديدة، حاولت مجموعات متفرقة من الشباب والنسوة التجمع والتظاهر مطالبين بعودة رئيس الوزراء السابق حمدوك وحكومته لكن لا يبدو أن هذه المجموعات ستؤثر مع إعلان حالة الطوارئ القائم، وإعلان حظر التجول المرجح في عدد من محليات ولاية الخرطوم ذات الأهمية، وفي غياب جهة تقوم بتمويل تلك العملية وحركة الشباب واعتصامهم، فإن الراجح تفرقهم نظراً إلى اغلاق العديد من المحال التجارية وأزمات الخبز والخدمات التي ستجعل بقاء الناس في الشوارع لفترات طويلة أمراً غير ممكن.
على كل هناك عمل كبير ينتظر قادة الجيش والدعم السريع والقوات الأمنية الأخرى وجنرالاتها على وجه الخصوص لإعادة ضبط حركة جهاز الدولة في ظل دعوات بعض الأجسام النقابية لمنسوبيها لإعلان العصيان ويجدر أن سفير السودان بالولايات المتحدة قد أعلن في بيان رسمي تمرده على السلطة القائمة في الخرطوم وأعرب عن استعداده لإستقبال تظاهرة من الجالية السودانية هناك احتجاجاً على إجراءات البرهان.
في انتظار المراسيم المقبلة من القائد العام للجيش، يبقى السودانيون في حالة من الترقب والحذر وسط أنباء عن تناقص المخزون من المواد الغذائية والمحروقات في أغلب ولايات السودان والعاصمة الخرطوم، وستكشف هذه المراسيم ما إذا كانت القوات المسلحة تسعى فعلاً إلى تصحيح مسار الفترة الانتقالية أم أنها تحاول بمكر غير مستبعد مصادرة الفترة الانتقالية والمستقبل الذي سيتأسس عليها.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  تَوسُّع المعارك خارج الخرطوم.. المحنة السودانية تتمدد
محمد عثمان ابراهيم

كاتب وصحفي سوداني

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "واشنطن بوست": كابول ليست سايغون 75.. إنها بيروت 83!