واضح أنه بعد أفغانستان، لا يُهدر الرئيس الأميركي جو بايدن الكثير من الوقت ليضع إستراتيجيته في مواجهة الصين موضع التنفيذ، حتى لو أزعج بعض الحلفاء من إستلاف شعار “أميركا أولاً” من سلفه دونالد ترامب.
في مسيرة بايدن إلى الصين، كانت فرنسا أول من “يُطعن في الظهر”، بحسب وزير خارجيتها جان-إيف لودريان. فعدا عن الضربة التي تلقتها العلاقة الفرنسية ـ الأميركية بإلغاء صفقة الغواصات مع أوستراليا، يؤكد الممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل، أن واشنطن “لم تبلغ الإتحاد” مسبقاً بعزمها على إقامة شراكة أمنية جديدة مع بريطانيا وأوستراليا باسم “إيكوس” بهدف التصدي للصعود الصيني في المحيطين الهندي والهادىء. وعدم التشاور في مسألة الشراكة الأمنية الجديدة، تأتي بعد أسابيع من تجاهل إدارة بايدن للحلفاء في قرارها الإنسحاب “المتسرع” من أفغانستان.
لا يعبر الخلل في العلاقة الأميركية – الفرنسية والأوروبية عموماً، سوى عن تعارض في الأولويات بين واشنطن وباريس. وبينما الهم الفرنسي ينصب الآن على عدم تحول منطقة الساحل الأفريقي إلى أفغانستان ثانية من حيث إنهيار جيوش دول المنطقة أمام التنظيمات الجهادية، على غرار تجربة طالبان، التي تشجعت بها هذه التنظيمات، فإن بايدن يرى أنه إذا لم يسارع إلى إحتواء الصين، فإن أميركا ستخسر “المنافسة الشرسة” القائمة حالياً بين أكبر إقتصادين عالميين. هي في الواقع أبعد من “منافسة شرسة”. إنها حرب باردة بكل معنى الكلمة.
المرارة الفرنسية ليس مردها فقط إلى الضربتين، المعنوية والإقتصادية، اللتين تعرضت لهما فرنسا، وإنما لا يجوز إغفال القلق على الدور في القضايا الدولية. قد يفسر ذلك، المحاولات الفرنسية الدؤوبة للظفر بدور في لبنان، ولو بتبني مرونة حيال إيران
بعد مرور 50 عاماً على زيارة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسينجر لبيجينغ، كثير من المحللين الإستراتيجيين في الولايات المتحدة، يتساءلون هل إرتكبت أميركا خطأ إستراتيجياً بالتطبيع مع الصين والمساهمة بطريقة أو بأخرى في صعودها الصاروخي. وقتذاك، مدت أميركا اليد إلى ماو تسي تونغ، وفي ذهنها، أن خير وسيلة لإلحاق الهزيمة بالإتحاد السوفياتي، تكمن في الإنفتاح على الصين والتحالف معها. ولا شك أنه كان لهذا الإنفتاح الأثر البالغ في كسب الحرب الباردة وتفكك الإتحاد السوفياتي. لكن واشنطن تعتقد أنها تواجه اليوم ما هو أخطر بكثير من الإتحاد السوفياتي.
ومهما حاول بايدن إنتقاء كلماته عند الحديث عن العلاقة مع الصين والتخفيف من إحتمالات تطور الموقف إلى مواجهة شاملة مع العملاق الصيني، فإن قراراته تدل على أن لا أولوية تتقدم على هذه المواجهة.
وشراكة “إيكوس” لن تكون المبادرة الوحيدة التي يعتزم بايدن إطلاقها حيال الصين. ففي الأيام المقبلة، سيستقبل الرئيس الأميركي في البيت الأبيض زعماء الهند واليابان وأوستراليا، من أجل إعادة تفعيل حلف “كواد” في المحيطين الهندي والهاديء، بينما تبحر في هذين المحيطين خمس حاملات طائرات من أصل 11 حاملة طائرات أميركية، وسحب بطاريات صواريخ الباتريوت جارٍ على قدم وساق من الشرق الأوسط، حتى ولو تسبب في توتر بالعلاقة مع السعودية، وإمتعضت إسرائيل من إحتمال إحياء الإتفاق النووي مع إيران.
ومنذ الأشهر الأولى لوصول بايدن إلى البيت الأبيض وزيارات المسؤولين الأميركيين لا تتوقف إلى الدول الآسيوية، آخرهم كانت نائبة الرئيس كامالا هاريس التي قامت بجولتها في ذروة الجدل حول طريقة الإنسحاب الأميركي من أفغانستان أواخر آب/أغسطس. ومثل هذا النشاط الديبلوماسي غير ملحوظ في أماكن أخرى، بينما يحاول بايدن تفادي أي مشكلة تطرأ في العالم كي لا يشتت الإنتباه عن الصين. وأبرز مثال على ذلك، هو تجاهل الإدارة الأميركية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وعندما إندلعت حرب غزة الأخيرة، عهد بايدن إلى مصر والأردن تثبيت التهدئة وعدم إندلاع نزاع على نطاق واسع يُرغم واشنطن على تحويل إنتباهها عن الصين.
بايدن يرى أنه إذا لم يسارع إلى إحتواء الصين، فإن أميركا ستخسر “المنافسة الشرسة” القائمة حالياً بين أكبر إقتصادين عالميين. هي في الواقع أبعد من “منافسة شرسة”. إنها حرب باردة بكل معنى الكلمة
وفي خضم هذا المسار الأميركي المتصاعد حيال الصين، لا يعود مستغرباً سقوط أضرار جانبية، كالعلاقة الأميركية – الفرنسية، من دون أن يسقط من الحسابات ما إذا كانت واشنطن ردت على العقد النفطي الفرنسي في العراق، بإغراء أوستراليا بالغواصات الأميركية النووية، بديلاً من صفقة الغواصات الفرنسية؟
في عالم تتداخل فيه السياسة بالإقتصاد لا يعود أي شيء مستغرباً، ولو إتخذ عناوين الشراكة الأمنية وتقدم المواجهة مع الصين على ما عداها في المرحلة المقبلة. ثم أن المرارة الفرنسية ليس مردها فقط إلى الضربتين، المعنوية والإقتصادية، اللتين تعرضت لهما فرنسا، وإنما لا يجوز إغفال القلق على الدور في القضايا الدولية. قد يفسر ذلك، المحاولات الفرنسية الدؤوبة للظفر بدور في لبنان، ولو بتبني مرونة حيال إيران.
بعد أفغانستان، تحاول أميركا إعادة ترتيب جدول الأعمال العالمي، بما يضمن إستمرار هيمنتها على القرن الحالي. وهي تعيش في الوقت نفسه حالة نكران حيال صعود قوى أخرى، وتمعن في تجاهل مصالح الحلفاء على حد سواء.. وفرنسا نموذجاً.