حتى لا نبقى في عموميات النص، خصوصاً أن للقرآن دوره في تكوين ثقافتنا العربية والإسلامية، سأحاول إعطاء أمثلة ـ أسئلة. نقول إن المسلمين يؤمنون بأنّ القرآن هو وحي من الله إلى النبي محمّد. إذا سألنا عن الكيف وماذا يعني، نكون في جوهر الأمر نسأل “ما هو تأثير هكذا إيمان على طبيعة الفكر الإسلامي”؟، “هل القرآن هو كلام الله الوحيد في الاسلام”؟، ومثل ذلك من الأسئلة التي تعطينا فهماً أكبر وأعمق عن القرآن وكيف تعامل معه علماء المسلمين وماهية القيود التي وضعوها له.
الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها ليس بالسهل، لكن من المفيد نقد الرواية الإسلامية السائدة، فالقرآن ليس بالوحي الوحيد في الاسلام. (هناك السنّة النبوية التي يعتقد البعض أنّها وحيٌ أيضاً، وهناك فرق اسلامية تؤمن أنّ لها طرق إلى الله يأتي من خلالها وحي إضافي). وهناك أيضاً واقع أنّ القرآن كان ولا يزال يتصارع ويتنافس مع مصادر دينية أخرى. إذاً على الباحث الغوص في الروايات على تناقضها وتشعبها من أجل الوصول إلى مقصدها الحقيقي. لذلك، سأحاول في هذه المقالة التركيز على موضوع نسخ القرآن.
في بعده السطحي، يعني النسخ أن يُلغَى شيء بشيء آخر يأتي بعده. لكن في ما يتعلّق بالقرآن، النسخ مفهوم معقّد جدّاً، خصوصاً إذا أخذنا بما قاله العلماء وأضفنا إلى ذلك ما فعلوه.
هناك ثلاث حالات من النسخ متعارف عليها: نسخ التلاوة والحكم، نسخ الحكم دون التلاوة، نسخ التلاوة دون الحكم.
أولاً؛ نسخ التلاوة والحكم: يعني أن الآية المنسوخة و/أو الآية الناسخة ليس لهما وجود في المصحف. إذاً كيف نعلم مَن نَسَخَ مَن؟ لا يجيبنا القرآن عن ذلك، بل علينا الذهاب إلى خارج القرآن، إلى كتب الحديث (المنسوب إلى النبي أو الصحابة)، وربّما كتب السيرة والتاريخ ايضاً. مثل على ذلك الآية التي يقال إنّها عالجت موضوع أخوّة الرضاعة، حيث نجد حديث منسوب إلى عائشة قالت فيه: “أُنزل في القرآن “عَشرُ رَضعات معلومات يُحَرّمن”، فَنُسخ من ذلك خَمس رَضعات، وصار إلى “خَمس رَضعات معلومات يُحَرّمن”، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والأمر على ذلك” (صحيح مسلم). معنى هذا أنّه إذا أرضعت إمراة طفلاً ليس ولدها خمس رضعات يصبح الطفل أخاً بالرضاعة لأولادها. (يمكن أن نسأل هنا لماذا لم تدوّن هذه الآية الناسخة في مصحف عثمان؟ سأترك الجواب لمقال آخر عن جمع القرآن).
ثانياً؛ نسخ الحكم دون التلاوة: يعني أنّنا نجد الآية في المصحف ونقرأها تلاوةً فقط، لكن علينا تجاهل ما تنصّ عليه وكأنّها غير موجودة. مثل على ذلك الآيات 1-4 من سورة المزمّل: “يا أيّها المُزمّل، قُم الليل إلاّ قليلاً، نِصْفه أو أنقُص منهُ قَلِيلاً، أو زِد عَليه ورَتّل القرآن تَرتيلاً”. نسخت بمعنى أنّ قيام الليل لم يعد بفريضة.
ثالثاً؛ نسخ التلاوة دون الحكم: هناك نوعان؛
1) ليس بالضرورة أن يكون هناك نسخ بين آيتين، بل المقصود هو أنّ هناك آيات لا نجد لها ذكر في المصحف بتاتاً ولكن علينا أن نتبع حكمها.
2) هناك آيات نَسخت آيات أخرى؛ نجد المنسوخة في نصّ المصحف، لكن لا نجد أثراً فيه للآية الناسخة والتي على المسلمين اتباع حكمها. لنأخذ مثلاً آية الرجم التي يقال إنّها نَسخت آية الجلد – الزّانيةُ والزّاني فاجلِدوا كُلّ واحدٍ منهُما مِائَة جَلدةٍ.. (سورة النور 2) – ونعرف عن أية الرجم فقط من حديث لعمر بن الخطاب قال فيه:
“إن الله قد بعث محمدًا، صلى الله عليه وسلم، بالحقِّ وأنزل عليه الكتاب. فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعدَه. فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجمَ في كتاب الله، فيضلُّوا بترك فريضة أنزلها الله. وإن الرجمَ في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصَن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الإعتراف.” (صحيح مسلم).
هذا يدلّ فعليّاً أنّ حديث عمر بن الخطّاب نسخ آية في القرآن (هنا أيضاً نسأل فضوليّاً لماذا لم تُضمّ هذه الآية الناسخة إلى القرآن)؟
ما نراه بكلّ وضوح هو تغاضي العلماء عن القرآن في حالات كثيرة والسماح بنسخه قولاً أو “صمتاً”. لذلك علينا العودة إلى ما قاله ابن عبد البرّ أعلاه: “تركَ الكتاب موضعاً للسنة، وتركت السنّة موضعاً للرأي”. فيكون القرآن ناسخاً للقرآن، والسنّة ناسخة للقرآن، ورأي العلماء ناسخاً للقرآن (وللسنّة)
صحيح أنّ القرآن يقول: “ما نَنْسخ مِن آية أو نُنسِها، نأتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا” (سورة البقرة 106). لكن القرآن لا يقول لنا أياً مِن آياته نُسخت أو أُنسيت. وهناك إشكاليّة أخرى إذ نعتقد خطأ أنّ النسخ هو في اتّجاه واحد: الأحدث ينسخ الأقدم. لكن برأي الكثير من علماء الإسلام، أن النسخ في القرآن يمكن أن يكون في اتّجاه معاكس، أي الأقدم ينسخ الأحدث. لنأخذ مثال الآيتين 5 و6 من سورة التوبة. يرجح بعض العلماء أن الآية 5 (فاقتلوا المشركين حيث وجدتّموهم..) نسخت الآية 6 (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره..)، وكذلك الآية 234 من سورة البقرة نسخت الآية 240 (ضرورة الإنتظار أربعة أشهر بدل سنة في مسألة العِدّة). وحتّى في الاتجاه الشائع، هناك حالات نسخ مباشرة، أي تنسخ آية ما الآية التي تأتي قبلها مباشرة، مثل الآية 13 من سورة المجادلة التي نَسَخت الآية 12، أي أنّنا لا نتكلّم هنا عن قديم وحديث، بل عن تلازم زمني.
إذاً موضوع النسخ في القرآن شائك من ناحية أنّ طبيعته والآراء فيه تشير إلى آيات غير موجودة فعلياً في المصحف تنسخ آيات غير موجودة أو آيات ما زالت موجودة لكن علينا تجاهل ما تقوله، وهناك آيات سابقة تنسخ آيات لاحقة والذي هو عكس منطق النسخ، وهناك آيات غير موجودة يجب العمل بها. بمعنى آخر، النسخ في القرآن فيه كثير من التعقيد.
هناك أيضاً بعد آخر في موضوع النسخ يتعلّق بعلاقة القرآن بالمصادر الأخرى وسيادته عليها. هناك نسخ السنّة للقرآن، والتي يبيحها معظم العلماء. البعض (أمثال مالك بن أنس وأصحاب أبي حنيفة) قالوا بذلك وبنوا على أساسه، أي أنّ السنّة النبوية هي وحي من الله، وأنّ الله أرادنا أن نتبعها – مثلاً الآيات، “ومَا يَنْطِقُ عَن الهَوَى، إنّ هو إلاّ وَحْيٌ يُوحَى” (سورة النجم 3-4)، “ومَا آتَاكُم الرَسُول فَخُذوهُ ومَا نَهاكُم عَنه فانْتَهوا واتّقوا اللّهَ إنّ اللّهَ شَديدُ العِقابِ (سورة الحشر 7). يمكن أن نسأل هنا: هل هذه الآيات تشير إلى القرآن أو إلى السنّة أو إليهما معاً؟ من جديد، القرآن لا يجيبنا عن هذا السؤال، بل من يجيبنا هم علماء المسلمين، مثلاً ما قاله ابن عبد البرّ (ت. 1071) في كتابه “جامع بيان العلم وفضله”:
“روي عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان الوحي ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويخبره جبريل عليه السلام بالسنة التي تفسّر ذلك. قال الأوزاعي: الكتاب أحوج إلى السنّة من السنّة إلى الكتاب. قال أبو عمر (ابن عبد البر): “يريد أنّها تقضي عليه وتبيّن المراد منه، وهذا نحو قولهم: ترك الكتاب موضعاً للسنة، وتركت السنّة موضعاً للرأي.. وبه عن الأوزاعي قال: قال يحيى بن كثير: السنّة قاضية على الكتاب وليس الكتاب بقاضٍ على السنّة”.
الواضح من كلام ابن عبد البرّ أنّ السنة النبويّة هي وحي ولا يعلو عليها شيء.
حتّى العلماء الذين رفضوا نسخ السنة للقرآن (أمثال الشافعي وابن حنبل)، كان رأيهم قولاً خالفوه فعلاً. يقول الشافعي في رسالته مثلاً إنّ القرآن لا ينسخه إلاّ القرآن. لكن في كتاب “الأم”، يستخدم الشافعي الحديث النبوي “لا وصيّة لوارث” لنسخ قول الله (سورة البقرة 180) – “كُتِبَ عَليكُم إذا حَضَر أحدَكُم المَوت إن تَرَك خَيراً الوَصيّة للوالدَين والأقرَبين بالمَعْروف حَقّاً عَلى المُتّقينَ” – ويضيف: “حكم الوصيّة لوارث حكم ما لم يكن، فمتى أوصى رجل لوارث وقفنا الوصية فإن مات الموصِّي والموصَّى له وارث فلا وصيّة له”. والمعروف شرعاً أنّ الوالدين والأقربين هم من ورثة الميّت. إذاً أباح الشافعي فعلاً للسنة أن تنسخ القرآن.
ونسخ القرآن لا يقف فقط على القرآن والسنّة. ففي كثير من الحالات وافق علماء المسلمين على نسخ القرآن برأي صحابي من الصحابة أو تابعي أو حتّى فقيه من الفقهاء، كما رأينا في حديث عمر عن الرجم. مثل آخر نجده في موضوع أقصى مدّة حمل المرأة الذي يعالجه الفقيه الحنبلي ابن قدامة (ت. 1223) في كتابه “المغني”:
“ظاهر المذهب (الحنبلي) أنّ أقصى مدة الحمل أربع سنين. وبه قال الشافعي وهو المشهور عن مالك. وروي عن أحمد أنّ أقصى مدّته سنتان. وروي ذلك عن عائشة وهو مذهب الثوري وأبي حنيفة.. وقال الليث: أقصاه ثلاث سنين، حملت مولاة لعمر بن عبد الله ثلاث سنين. وقال عبّاد بن العوام: خمس سنين. وعن الزهري قال: قد تحمل المرأة ست سنين وسبع سنين. وقال أبو عبيد: ليس لأقصاه وقت يُوقف عليه. ولنا أنّ ما لا نصّ فيه، يُرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد الحمل لأربع سنين”.
لنضع جانباً الاختلاف بين الفقهاء حول هذا الموضع، يستوقفنا في المقطع أعلاه رأي ابن قدامة: “ولنا أنّ ما لا نصّ فيه، يُرجع فيه إلى الوجود”. أي ما ليس فيه نصّ قرآني أو سنّة نبويّة، على الفقيه الأخذ بما هو متعارف بين الناس. لكن المدهش هنا أنّ في القرآن آية تقول بكلّ وضوح: “وحَمْلُه وفِصالُه ثَلاثُون شَهْراً” (الأحقاف 15)، وفي آية أخرى: “الوَالِداتُ يُرضِعنَ أولادَهُنّ حَولَينَ كامِلَينِ” (البقرة 233). لندع جانباً إشكاليّة الفروقات بين السنة القمريّة والسنة الشمسيّة، يكون الحمل وفقاً للقرآن بين ستّة أشهر (إذا كان الرضاع لسنتين، أي 24 شهراً، يبقى ستة اشهر للحمل) وثلاثين شهراً (إذا فصلنا موضوع الرضاعة عن الحمل). إذاً كيف يبرّر الشافعي والحنابلة أنّ أقصى الحمل أربع سنين (48 شهراً)؟ ومن أين كلّ هذا الخلاف حول هذا الموضوع؟ ولماذا لم يأخذوا بالقرآن؟
ما نراه بكلّ وضوح هو تغاضي العلماء عن القرآن في حالات كثيرة والسماح بنسخه قولاً أم “صمتاً”. لذلك علينا العودة إلى ما قاله ابن عبد البرّ أعلاه: “تركَ الكتاب موضعاً للسنة، وتركت السنّة موضعاً للرأي”. فيكون القرآن ناسخاً للقرآن، والسنّة ناسخة للقرآن، ورأي العلماء ناسخاً للقرآن (وللسنّة).
هذا إنّ دلّ على شيء فهو على دور العلماء المحوري في تعريف مفهوم نسخ القرآن وخلق تشعّبات فيه سمحت لهم بهيكلة الكثير من الأمور في الإسلام بديناميكية كبيرة. (يُتبع)