“شطحات” أهل التصوّف.. كلٌ يرى “أناه” أولاً (8)

فتحت "شطحات" أهل التصّوف في العصر الكلاسيكي الباب واسعاً من أجل معرفة "الخالق" وتفادي عنجهيّة الفكر الديني المتزمّت. لذلك يمكن أن نصف "شطحاتهم" بالأحلام التي يمكن أن تساعد في الهروب من الواقع إلى الكمال، لعلّ الكمال يصبح واقعاً.

عندما بدأ التصوّف في القرن التاسع (كما ذكرت في المقالة السابقة)، كان بعض المتصوّفة واعين لخطورة فصل البشر عن الله. لذلك نجدهم يصرّون على وحدة الوجود كأساس للفكر الديني. ولتحقيق وحدة الوجود، على البشر (من استطاع منهم على الأقل) أن يتخطّوا حاجز الأنا البشريّة (ببعديها الجسدي والعقلي) والتي تشكّل العائق بينهم وبين وحدتهم مع الله.

من غريب الأمور أنّ الكثيرين ممن إنتقدوا في الماضي فكر التصوّف وأهله (أو ينتقدونه اليوم) لا يملكون فهماً أو وعيا لهً. جلّ ما يرونه هو شعائر وممارسات تنتهك برأيهم شرائع الإسلام. عندما تكلّم بعض أهل التصوّف عن شعائر الدين، لم يرفضوها، بل رأوها وسائل تساعد على الوصول إلى الله، ويمكن استبدالها بوسائل أخرى أنجع. وانتقدوا أيضاً خوض الفقهاء في كثير من الأمور السطحيّة والسخيفة وكأنّها هدف الدين وغايته. مثلاً، ما هي الحكمة الإلهيّة في أن يعالج الشرع الإسلامي مسألة قصّ الأظافر: في شهر رمضان؟ في أثناء الحيض؟ في أي من أيام الأسبوع أفضل.. إلخ. وكتب الشرع مليئة بهذا النوع من الأمور التافهة.

من دون شك، أكبر مشكلة يواجهها المتصوّف في بدايته هي حاجز الأنا الجسديّة التي تفرض نفسها وأولويّاتها عليه. هدف التصوّف في هذه الفترة هو ترويض وتدجين الجسد بدل الإنصياع إلى غرائزه. وبعد ذلك يبدأ الصراع مع الأنا الفكريّة، الذي هو صراع أصعب ويتطلّب ممارسة أعمق للتصوّف.

ولعل إشكاليّة الأنا هي من أعظم العوائق في الفكر الصوفي. في قصيدة له عالجت هذا الأمر، يصف جلال الدين الرومي (ت. 1273) خروج الأسد للصيد بصحبة ذئب وثعلب، فاقتنصوا ثوراً وحشيّاً وتيسَ ماعزٍ وأرنباً برّيّاً. بعد عودتهم، طلب الأسد من الذئب أن يقسم الغنيمة. يقول الرومي شعراً (مع بعض التصرّف):

“فأجاب الذئب: أيّها الملك، إنّ الثور الوحشي لك/ فهو ضخم وأنت ضرغم جبّار.

أمّا التيس فهو لي، مناسب لحجمي/ ولك الأرنب يا ثعلب ولا تكن مكّار”.

فاستشاط الأسد غضباً من الذئب وقال له: “أحينما أكون موجوداً تتكلّم بـ “أنا” و”أنت”؟ فضربه، فانهار الذئب صريعاً. ونظر الأسد إلى الثعلب وسأله أن يقسم الغنيمة.

“فسجد الثعلب وقال: هذا الثور السمين لك للإفطار/ أيّها الملك المختار.

ولنترك تيس الماعز لوقت غدائك/ يا مظفّر في منتصف النهار.

ويبقى الأرنب لوقت العشاء/ تتناوله مساءً يا ذو اللطف واليسار”.

فتعجّب الأسد من فصاحة الثعلب وسأله:

“أين تعلّمت القسمة هكذا يا رفيقي الحاذق/ أمن مصير الذئب الغرّار؟.

أراد الرومي من قصيدته هذه القول إنه بوجود الله، لا وجود لأي شيء آخر. لذلك، على الإنسان أن يتعلّم من مصير غيره وأنّه كلّما كانت أناه مسيطرة عليه وعلى تفكيره، فسيقبى منبوذاً من الله. بمعنى آخر، فناء الأنا هي بقاء الإنسان.

شطحات الصوفيّة هي صرخة في وجه طغيان الإنسان الذي يحلّل ويحرّم ويبطش ويتعسّف ويسخّر ويقتل بإسم الله، ومن دون حتّى وحدة مع الله. أناه تطغى على كلّ شيء، حتّى على إلهه

فكرة الفناء والبقاء طوّرها أهل التصوّف وفقاً لقراءتهم للقرآن وحياة النبي محمّد وتأثّرهم بالفلسفة الروحانيّة التي كانت رائجة في ذلك الوقت في وسط وجنوب آسيا (بما في ذلك عند الهندوس والبوذيّين).

للتوضيح، عندما يتحدّث المتصوّفة عن الفناء والبقاء، فهم لا يعنون موت الجسد وذهاب الروح إلى جنّة عدن. ما يعنونه هو موت الأنّا أثناء حياة المتصوّف عندما تحصل المشاهدة ويتبعها الحلول أو الإتّحاد بالله. وينقل الجنيد في هذا المعنى حديثاً منسوباً للنبيّ يقول فيه:

“قال الله عزّ وجلّ: لا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به”.

والحلول لا يعني أنّ الإنسان يصبح إلهاً، لأنّ الحلول لا يحصل في أي وقت أو على امتداد زمن طويل، بل في أوقات محدودة وقصيرة جدّاً، لذلك أكثر ما يمكن قوله إنّ المتصوّف الذي يحصل له الحلول يصبح بعد ذلك أداة لله في هذا العالم.

من دون شكّ، هناك بعض المبالغة في هذا الوصف، إذ ليس كل من يمارس التصوّف يصل إلى هذه المنزلة، وليس كلّ من يدّعي الوصول إليها تفنى فيه الأنا. السؤال هو: هل يمكن إعادة قولبة هذا النوع من الفلسفة في إطار مختلف؟

فلسفة أهل التصوّف وشطحاتهم بدأت وانتشرت في زمن كان فيه الإعتقاد السائد (على الأقل في الجغرافية التي انتشر فيها) متقبّلاً لحصرية الإله الخالق للكون. لذلك ارتكز الفكر الصوفي على ضرورة وحدة الإنسان مع ربّه كالإطار الوحيد الذي من خلاله يجب أن نعيش. يمكن أن نجد ذلك لا يتماشى مع المسلّمات السائدة في عصرنا اليوم. كلٌّ يرى أناه أوّلاً، ويطالب بحقوقه، ويعجز عن رؤية الفائدة في المصلحة العامّة ومصلحة الآخرين.

إقرأ على موقع 180  التاريخ في خدمة الأيديولوجيا.. ابن عساكر الدمشقي نموذجاً

شطحات الصوفيّة هي صرخة في وجه طغيان الإنسان الذي يحلّل ويحرّم ويبطش ويتعسّف ويسخّر ويقتل بإسم الله، ومن دون حتّى وحدة مع الله. أناه تطغى على كلّ شيء، حتّى على إلهه.

لذلك، يمكن إعادة قولبة فكرة الفناء والبقاء والصراع مع الأنا في إطار حياة البشر على الأرض. من دون وعي لضرورة وإجباريّة السعي إلى الوحدة مع الكوكب الذي نعيش عليه ونعتاش منه، لن يكون لنا إلاّ دماره ودمارنا، وهو ما يحصل أمامنا في هذه الأيّام.

تستوقفني في نهاية هذه المقالة قصيدة للراحل خليل حاوي (ت. 1982) – خلّدها الفنان مارسيل خليفة في أغنية عن جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة – يقول فيها:

ومتى نطفرُ مِن قبوٍ وسجْنِ

ومتى، ربَّاهُ، نشتدُّ ونبني

بِيَدينا بَيتنا الحُرَّ الجَديدْ

يَعبرونَ الجِسرَ في الصبحِ خفافاً

أَضلُعي امتَدَّتْ لَهُم جِسْراً وطيدْ

مِن كُهوفِ الشرقِ، مِن مُستنْقعِ الشَرقِ

إِلى الشَّرقِ الجديدْ

أَضْلُعي امْتَدَّتْ لَهُم جِسراً وطيدْ

سوفَ يَمضونَ وتَبْقى

صَنَماً خلَّفَهُ الكهَّانُ للريحِ

التي تُوسِعُهُ جَلْداً وَحرْقاً

فارغَ الكَفَّيْنِ، مصلوباً، وحيدْ.

من دون شطحات صوفيّة، لما كان بمقدور خليل حاوي أن يثور على طغيان شريعة من يعتقد أنّ له الأمر والنهي بتكليف إلهي. ساعدته هذه الشطحات التي أعاد قولبتها بأن يحلم بشرق جديد. الواقع يبدأ بحلم.. والحلم بحاجة لشطحات.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  عن بوتفليقة.. بلا عواطف أو عواصف