جرى كل شىء ــ هذه المرة ــ فى عرض الطريق العام بمدينة الإسماعيلية، أمام المارة وتحت رقابة الكاميرات، ذبح مواطناً بساطور وتجول برأسه فى المكان حتى تمكن منه المارة.
انتشرت المقاطع المصورة على شبكة التواصل الاجتماعى. خضعت الحادثة لتغطيات موسعة غير معتادة وسجلت شهادات من موقع الحادث. اختلطت المعلومات بالشائعات، وبدا المشهد كله أقرب إلى محاكمة مبتسرة أمام الرأى العام. بعض الكلام ثابت عن تعاطيه مواد مخدرة يوم الواقعة، وبعضه الآخر غير مدقق إذا ما كانت «جريمة شرف» أم لا؟
بأي إطلالة عابرة على صفحات الحوادث، فإننا أمام مجتمع يتحول ويتفاعل وتنشأ داخله ظواهر مستجدة فى الجريمة دون أن تخضع لدراسة حقيقية.
حادثة الإسماعيلية إشارة خطر تستدعى محاكمة المجتمع، قبل «دبور»، لندرك مواطن الخلل فى بنيته وما قد تئول إليه مستقبلا.
فى «اللص والكلاب» حاكم «نجيب محفوظ» المجتمع، قبل السفاح.
بأي محاكمة عادلة، فإن مصير «دبور» معروف سلفا، فالجريمة البشعة علنية ومصورة، وهو معترف أمام النيابة بارتكابها، ولا يوجد من هو مستعد أن يبدى أدنى تعاطف معه حتى داخل أسرته نفسها.
مع مضي الوقت، سوف يتراجع حجم التغطيات الإعلامية للحادثة المروعة، غير أن مغزاها الاجتماعى سوف يبقى فى مسرح الجريمة: لماذا توحش العنف إلى هذه الدرجة المروعة؟ وما العمل لتخفيض الكلفة الاجتماعية وحصار أسبابها وآثارها السلبية؟
فى «اللص والكلاب» أجرى «نجيب محفوظ» على لسان «سعيد مهران» محاكمة تخيلية دافع فيها عن نفسه قبل مقتله بوابل من رصاص الشرطة استسلم له بلا مبالاة:
ــ «إن من يقتلنى إنما يقتل الملايين، أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء، وأنا المثل والعزاء والدمع الذى يفضح صاحبه، والقول بأننى مجنون ينبغى أن يشمل جميع العاطفين فادرسوا أسباب هذه الظاهرة الجنونية واحكموا بما شتئم».
كانت تلك عبارة كاشفة لفلسفة العمل الروائى كله، مأساة السفاح ومأساة المجتمع نفسه.
انتابت «سعيد مهران»، وهو فى حالة دوار يكاد لا يستبين ما حوله، حالة جنون عظمة، متأثرا بحجم التغطيات الصحفية للجرائم التى ارتكبها والرصاصات الطائشة التى أطلقها ونالت من أبرياء دون أن يصل إلى الذين خانوه.. والكلاب التى تطارده.
استلفت نظر «نجيب محفوظ» فى قصة «السفاح» «محمود أمين سليمان» أن قطاعا من المواطنين تعلقوا به ونظروا إليه كما لو كان بطلا، استلهم القصة الواقعية، وبنى عالما مختلفا حاول فيه بحس الروائى العظيم أن يقترب من حقائق مجتمعه وأزماته المسكوت عنها دون أن يقع فى مطبات المباشرة والوعظ والإرشاد.
حاول أن يجيب بقوة الدراما على سؤال: لماذا تعاطفت قطاعات فى الرأى العام مع السفاح «محمود أمين سليمان»؟
فى «اللص والكلاب» أجرى «نجيب محفوظ» على لسان «سعيد مهران» محاكمة تخيلية دافع فيها عن نفسه قبل مقتله بوابل من رصاص الشرطة استسلم له بلا مبالاة: «من يقتلنى إنما يقتل الملايين، أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء، وأنا المثل والعزاء والدمع الذى يفضح صاحبه، والقول بأننى مجنون ينبغى أن يشمل جميع العاطفين فادرسوا أسباب هذه الظاهرة الجنونية واحكموا بما شتئم»
كانت رواية «اللص والكلاب»، التى نشرت عام (1961) بتوقيت مقارب لمقتل السفاح، وتحولت إلى شريط سينمائى بالعام التالى، نقطة تحول فى عالمه الروائى أكثر عمقا فى النظر إلى معنى الوجود الإنسانى وفلسفة الحياة والبحث المضنى عن العدل، مال إلى النقد السياسى والاجتماعى محذرا مما قد يحدث فى المستقبل القريب.
هكذا توالت وقفاته النقدية بلغة الأدب وقوة الدراما لما قبل هزيمة يونيو: «السمان والخريف» (1962)، «الطريق» (1964)، «الشحاذ» (1965)، «ثرثرة فوق النيل» (1966)، «ميرامار» (1967).
فى المحاكمة المتخيلة، التى أجراها «سعيد مهران» لنفسه، دعا إلى دراسة ما أسماه «الظاهرة المجنونة»، أن يُعجب قطاع واسع من الرأى العام برجل ينتهك القانون وتنال رصاصاته الطائشة من أبرياء.
قبل ستة أعوام أنشئ فى مصر عام (1955) «المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية»، الذى خفت صوته وتأثيره إلى حد افتقاده بالكامل فى جريمة الإسماعيلية المروعة، أو عندما تداهم المجتمع الجرائم المستجدة عليه، أو التى نعتقد أنها مستجدة لغياب البحث والتقصى والمعلومات الأساسية، التى كنا نطل عليها فى أوقات سابقة بدراسات وأبحاث ذلك المركز الرائد، كما تقارير الأمن العام.
فى كل العصور تحظى تقليديا أخبار الجريمة بنسبة قراءة مرتفعة.
لم تكن المدارس الصحفية المحافظة كـ«الأهرام» تعتنى كثيرا بأخبار الجريمة، لا تنشر فى الصفحات الأولى، ولا تفرد لها أبوابا موسعة.
كادت المدارس الصحفية الشعبية كـ«أخبار اليوم» أن تحتكر هذا النوع من التغطيات الصحفية، غير أن انتشار الجريمة العنيفة فى تسعينيات القرن الماضى، كظاهرة قتل الأزواج بـ«السواطير»، دعا «الأهرام» إلى التوسع فى التغطية وإنشاء باب خاص لمتابعة الحوادث.
هكذا فرضت ظواهر المجتمع نفسها على العمل الصحفى باختلاف مدارسه.
الجديد – هذه المرة ــ أن وسائل التواصل الاجتماعى هيمنت على التغطية بشهادات ومقاطع مصورة تلاحق التطورات دون تدقيق اعتادته الصحافة الورقية والتلفزيونية.
بدورها حاولت السينما أن تلاحق ظواهر العنف فى المجتمع، والجرائم المستجدة بدرجات مختلفة من الجودة الفنية.
كان فيلم «إحنا التلامذة» عملا رائدا أقرب إلى جرس إنذار للأسرة المصرية عند عام (1959)، استوحى مادته الدرامية من تورط أربعة شبان فى قتل صاحب بار، كيف ضاع مستقبلهم؟.. ومن يتحمل المسئولية؟
كانت تلك وثيقة إدانة سينمائية للمجتمع.
جرت محاولات أخرى مثل «المرأة والساطور» عام (1997) لكنها بدت استثمارا تجاريا فى الظاهرة أكثر من أن تكون رؤية تدخل فى عمق المجتمع ونظرته لأزماته.
فى كل تلك التجارب الأدبية والفنية يظل «اللص والكلاب» عملا فريدا يتحدى الزمن باتساع نظرته وثراء شخصياته.
«لتكن ضربتك القوية كصبرك الطويل وراء الجدران».
هكذا حادث «سعيد مهران» نفسه، وهو يتأهب للانتقام من زوجته «نبوية» وصبيه «عليش» الخائنان، قبل أن يضيف إليهما الصحفى «رءوف علوان» مثله الأعلى الذى تنكر لمبادئه وأفكاره التى لقنها له.
ــ «يسعدنى أن أعمل صحفيا فى جريدتك!.. أنا مثقف وتلميذ قديم لك، قرأت تلالا من الكتب بإرشاداتك».
كانت تلك محاكمة ساخرة من لص أفرج عنه للتو لـ«للمثقف الخائن»، أو الصحفى الانتهازى، ولمهنة الصحافة عندما تتنكر لقيمها الأخلاقية.
مهما اختلفت العصور ودرجة بشاعة الجرائم تظل رواية «اللص والكلاب» ملهمة لجدوى البحث عن «سعيد مهران»، أو أن نعرف بالضبط فى أى مجتمع نعيش.
(*) بالتزامن مع “الشروق“