عارف الريس.. غريزة الفن والأسئلة والحداثة

للوهلة الأولى، قد يبدو لنا معرض عارف الريس في "غاليري صفير-زملر" استعراضياً أكثر مما هو استعادياً. نشعر بذلك لأن استعادة أعمال فنان بمكانة عارف الريس، وقد عُرف بغزارة إنتاجه، عملية ضخمة ودقيقة، في وقت نمرّ بزمن جنوني مقيّد بقسوة شديدة.

لحظة دخول القاعة، يستوقفني المشهد وكأنه كبسولة زمنية مكثفة، تصوير وتصوّر لزمن أراد عارف الريس أن يواكب أحداثه بإصرار ويعبّر عن تأثيره بجرأة. ينتابني شعور بأن التاريخ الفني يصعب سرده في فضاء هذين المكان والزمان. فالمراحل المختلفة التي عرفتها سيرة الفنان شكّلت عملية بحث متواصل تجاوزت إطار اللوحة أو المنحوتة المصقولة وترتيبها المنتظم. كانت تأتينا في كل مناسبة كمشهد تفاعلي يكمن فيه التفكير والتكوين والتأليف الفني – أعمال ذات مواضيع عميقة وألوان غزيرة، تركيبات فنية متنوعة، معقدة ومتعددة الأبعاد.

المبادرة.. والتحديات

نبحث بقلق عن مقدمة لمسيرة عارف الريس، عن عناوين أو نص تفسيري لمراحل فنه، عن مقال رئيسي عن الفنان الذي ضجّت الصحف بالمقالات عن معارضه المتجددة في كل مرة. نبحث عن مقابلات يشاركنا فيها عارف الريس التساؤلات التي كانت تجول في خاطره، وهو الفنان التقدمي، الثائر والملتزم انسانياً. نفتقد الدراسات المعمّقة لأحد أبرز فناني الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين وما يليه في لبنان ومن أكثرهم انتاجاً على صعيد اللوحة والمنحوتة. يقودنا كل ذلك الى التساؤل لمن يتوجه هذا المعرض ولماذا يأتينا في هذه المرحلة بالذات وهذا المكان المحدد وعلى هذا الشكل؟ أسئلة تراودنا لأن الجيل الجديد ربما لن يفهم عمل عارف الريس فضلاً عن ان من تتلمذ على يده وتابع فنه قد يشعر بالحيرة والخيبة.

عارف الريس فنان يقف ويتساءل باستمرار كمن يودّ في عمله ان يجيب على السؤال الذي لا من يجيب عليه. يطرحه علينا ثم يكمل المشوار

يبدو لنا هذا المعرض صامتاً ومفكّكاً ومفرّغاً الى حد ما، مقارنةً بمكانة الفنان العملاق ومخيلته وصرخته، وكل ما تنطوي عليه سيرة أعماله من أفكار وآراء وتراكم للتجارب خلال سنين عديدة. هل يعبّر ذلك عن فراغنا وتفكك مجتمعنا اليوم؟ موقع المعرض يوحي بذلك والمرفأ المجاور يذكرنا لا بل يؤكد على ذلك.

لا شك بأن المبادرة قيّمة والاختيار من قبل كاترين دافيد وراءه اعتبارات كثيرة وربما قد واجهت تحديات عديدة. فمن عرف عارف الريس قد يفتقد الكثير في المعرض المطروح ولكن نثابر بالأمل ونتابع التجوال لاننا نعلم دون أي شك اننا سوف نجد الكثير عن نفس الفنان عند مقاربة أعماله الفنية مهما كان الاختيار والتسلسل لها.

حافظ ذاكرة البلد والزمن

من أين نبدأ والى أين نسير؟ ربما لا فرق ولا مبالاة لأن عارف الريس عرف تماماً كيف يعبر الطريق وكيف يعبّر عن زمن الصورة وسياسة الأرض المحروقة والوحدة والعزلة ووحشية الحروب في القرن العشرين.. وما زال. بحث في الذاكرة في أعمال ذات تقنيات مختلفة: لوحات زيتية ورسومات حبرية ومطبوعات وأنصاب. فهو فنان يقف ويتساءل باستمرار كمن يودّ في عمله ان يجيب على السؤال الذي لا من يجيب عليه. يطرحه علينا ثم يكمل المشوار.

عرف عارف الريس كيف يطرح مجموعة أسئلة جوهرية شاركنا بها منها على وجه الخصوص: من أين تبدأ اللوحة؟ هل الفن مغامرة أم تحدٍّ؟ ما هو الفن أساساً؟ هل يفرض الالتحاق بمدرسة معينة، وهل تعلّم الفن واجب؟ هل يجب العودة الى الطبيعة ولماذا؟ طالب عارف الريس بالعودة الى الطبيعة في زمن انتشار الفن التجريدي وهو يتساءل باستمرار: هل يصل بنا الفن التجريدي الى طريق مسدود خارج عن الذاكرة والتاريخ؟

المتجول بين القارات

من أول الأعمال المقدمة قصاصات ورقية collages للصحف اليومية من الصور التي ترمز الى الأحداث في لبنان وما كان يجري سياسياً في المنطقة. يكتب من خلالها تاريخاً مصوّراً لرؤية خاصة به: أعمال عمودية تذكّر بانتشار وسائل الإعلام ودورها في نقل المعلومة الصحيحة او الزائفة، ينتقد فيها عارف الريس الاهتمام المتزايد في ما يُقال ويُنقل. كان يعمل على صفحة يومية خاصة به، يبعثر مضمونها ثم يجمعه بعفوية. يُصمّم ملصقات جدارية يزودها كل ما يمر في ذهنه من كلام وصور ورسوم. مجموعة أسئلة غير متناهية فرضها عليه موقعنا الجغرافي والسياسي. فهل المكان هو صانع من يسكنه أو الإنسان هو صانع المكان؟

صور وصور وصور لتصور الرؤية والواقع المتقلب ومراجعة المراتب والأحداث. فان عارف الريس هو صاحب حدث نقي وقوي وموقع أساسي في الحداثة الفنية في لبنان والمنطقة وهو المتجول بين القارات من أوروبا الى امريكا وأفريقيا. ولا بد هنا أن نتوقف دون استراحة في المكسيك لذكر تأثيره بجداريات دييغو ريفيرا ورفضه للمجتمعات الاستهلاكية.

نشاهد مجموعة النقوش etching في كتاب  “طريق السلم” التي رسمها بين عام ١٩٧٣ و١٩٧٦ المتواجدة في المتحف البريطاني وما تختصر من تعبير عن العنف والحرب.

البحث في البدايات

أقيم أول معرض لعارف الريس في سن العشرين وهو لم يدخل الجامعة ليدرس الفن. عمل على الفن كما عمل إنسان الكهف. بدأ يرسم ودخلت رسوماته قلوب الناظرين اليه وعقولهم، وأولهم جدته. عمل على اللوحة كما عمل على المنحوتة. منحوتاته الصلبة هي امتداد للأرض التي سوف تختار مكانها. منحوتات كبيرة الحجم تذكّر بصخور جبالنا.

توفي عارف الريس في عام ٢٠٠٥ وهو في السابعة والسبعين، أي في عز إنتاجه وهي السنة التي عادت البلاد فيها الى نقطة الصفر. لكن أعماله تركت أثراً رافق كل من رفض نقطة الصفر

كان عارف الريس لا يتعدى سن العشرين من العمر عندما دفعته غريزته الى الفن التشكيلي. بدأ مع التجريد ثم ذهب الى التشخيص. مثّل لبنان في فرنسا في ١٩٥٧ ثم في نيويورك في جناح World Fair سنة ١٩٦٤. نال جوائز عدة في النحت قبل ان يتلقى الدعوة الى إيطاليا عام ١٩٧٢ ليقضي ثلاث سنوات يدرس فن النحت ويعرض في صالة Pogliani في روما وصالة Numéro في فلورنسا.

إقرأ على موقع 180  أركون أو "المنهجيّة الحفريّة" في التّراث العربي-الإسلامي (7)

فن عارف الريس مرآة لشخصيته ورؤيته للعالم. يقدّم لنا صورة عن الإنسان الساعي دائماً الى الحرية والتعمق في الذات والبحث عن إمكان التواصل مع المجتمع أو البحث عن وسيلة للتعبير عن هذا المجتمع. أليس الفن هو أقصر المسالك بين الإنسان والآخر؟

تفرض أعمال عارف الريس نفسها في كل موضوعاتها وتدعونا لقراءتها من منظور مثقف ومطلع على الدور الذي يجب ان يمثله الفن في هذا العالم الواسع والضيق معاً، الممتلئ والفارغ، المضحك والمبكي في آن واحد.

الفن الأفريقي

صحيح ان عارف الريس قد جال في أوروبا وأمريكا والدول العربية لكن تبقى إفريقيا مصدر الهام رئيسياً له، فلا بد من التوقف قليلاً عند المرحلة في أفريقيا وتأثيرها على فنه حيث فجرت الألوان المشبعة كالسواد القاتم والاحمرار الصارخ والأخضر والبنفسجي وتكوينات ديناميكية في لوحات ذات خطوط غليظة وأشكال هندسية.

لعب الفن الأفريقي دوراً أساسياً في الفن الحديث كما نعلم، فيما دفع اكتشاف الأقنعة والمنحوتات المتكاثرة في تلك القارة الى ابتكار نهج إبداعي مختلف في مسيرة بيكاسو والكثيرين من الفنانين. نجد ذلك بوضوح في عمل عارف الريس. اذكر مجموعة لوحات تمثل الزهور و”الطبيعة الصامتة” وما انتابني من فرح عندما وجدت إحداها في دار طبيبه المشهور أفلاطون وكانت عيادته في منطقة فردان في بيروت. زهور لا تحصى ولا تعد، يتراكم بعضها فوق بعض في فضاء مركب ومدروس ومفعم بالحيوية. أعمال رائعة تضفي اللون والنور في أماكن مجهولة من مدينة بيروت.

ثم تأتينا مجموعة الأعمال في السعودية مثلاً بأسلوب مختلف تماماً، ألوان ومشاهد تأملية.

يوم عرفت عارف 

تعاودني قهقهته في صوره الفوتوغرافية المعروضة، هذه القهقهة التي كانت تهز حيطان المدينة. كان يسخر من كل شيء إلا من العمل الفني الحقيقي وما نرثه من الإنسان الذي يتعاطى مع الفن بجدية قصوى. كان يعلم بأن العمل الفني هو الباقي عندما لا بد من الرحيل يوماً. كان يسخر من التزييف ولكن يحترم بشدة كل محاولة صريحة للتطلع والاكتشاف والتجربة الشخصية. ربما ورقة بيضاء كانت تكفي عند الدخول الى المعرض وتسجيل قهقهة عارف الريس لدى المرور من صالة الى أخرى، خاصة في زمن الأزمة العالمية.

درّس عارف الريس مادة التأليف في الجامعة اللبنانية، قسم الفن والتصوير في بداية الحرب الأهلية. لا شك بانها كانت مرحلة زمنية خصبة حيث جمعت الكلية عدداً كبيراً من الفنانين اللبنانيين الحديثين. اذكر عندما كان يدعونا للجلوس في حلقة دائرية لدرس لوحة ما. من اللوحات التي وقف عندها مطولاً “معركة سان رومانو” للفنان الإيطالي باولو اوتشلو Paolo Ucello مشيراً الى أهمية الخطوط العمودية والأفقية ودورها في التأليف.

عمل عارف الريس على الحفر ايضاً وطبع بيده محفورات عدة. أذكر بوضوح آلة الطبع التي قدمها بنفسه الى طلاب الجامعة اللبنانية والتي شكلت موضوع دراسة زيتية قمت بها في عام ١٩٧٩. اتذكر جلسة رسم مشهد طبيعي ايضاً حيث شاركنا في تصوير شجرة شامخة بين الصخور. أراد أن يشرح الخط واللون. حين وضع الريشة على اللوحة القماشية ثم عمل على تناغم الألوان، اكتشفت حينها كيف يحيي عارف الريس المشهد المرسوم.

توفي عارف الريس في عام ٢٠٠٥ وهو في السابعة والسبعين، أي في عز إنتاجه وهي السنة التي عادت البلاد فيها الى نقطة الصفر. لكن أعماله تركت أثراً رافق كل من رفض نقطة الصفر. يستمد هذا المعرض أهميته من أهمية الفنان نفسه وصدى أعماله برغم صمت المكان وكتم الزمان.

أراجع افكاري ومشاعري وأقول لنفسي ان الرحلة الفنية الفكرية لا بد ان تجدها في الأسئلة التي تنتابك وتجعلك تأخذ القلم وتكتب لأولادك الذين احبوا التقرب من الفن في لبنان وفن عارف الريس ولكن لم يفهموه، أو لجيل لم يعرف عارف الريس الذي أحب الشباب وخاطبهم بمحبة وفكّر معهم في أهمية محاكاة الطبيعة واستمرارية العمل والفن.

من يراقب بتمعن عمل عارف الريس قد يجد فيه سر المكان والزمان لان عارف الريس شرّع في أعماله أبواب البلاد التي سكنها والزمن الذي عايشه ودعا كل من زار أعماله الى البحث معه عن السؤال الجوهري حول دور الفن.

Print Friendly, PDF & Email
غريتا نوفل

فنانة تشكيلية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  هنا أرزة وليد صليبي.. فلنرقص ونغني لذكراه