أضغط على مترجمي الفوري المثبت على هاتفي الأميركي المصنوع في الصين، أعرض عليه بعض العناوين، يُترجمها كالآتي: “الحرب في أوروبا”، “حرب بوتين”، “روسيا في الطريق إلى كييف”. تبتسم السيدة الواقفة على صندوق الدفع، تسألني عما إذا كنت أوكرانياً، لم أرد أن أكون فظاً وأسألها إذا ما كنت أبدو أوكرانياً، “لا يا سيدتي، أنا من الشرق الأوسط، وهذا الذي يدهشكم هو ليلنا ونهارنا مذ كنا أطفالاً”.
تعاجلني بانكليزيتها الألمانية القول إن بين النمسا وأوكرانيا مسافة قصيرة، “ما يفصلنا عنها هنغاريا فقط”. أبتسم وأخبرها أني في طريقي إلى بودابست، وأني هنا انتظر قطاري الذي سيأتي قريباً.
بحركة سريعة ترسم السيدة صليباً على صدرها، “أرجوك كن بخير، أنت ذاهب إلى مكان خطر”. اتناول أغراضي والصحيفة التي اشتريت وأترك خلفي السيدة الخائفة والتي تظن أني ذاهب إلى الخطر، فيما أنا أمضي آخر يوم من مهمتي الصحفية بالتعرف على مدينة أوروبية جديدة.
منذ صغري عنت لي أوروبا كوكباً مختلفاً. زرتها في أعمار مختلفة، وكان لكل شيء فيها طعماً مختلفاً. عصير البرتقال في بلجيكا، الشوكولا الساخن في فرنسا، للطعم والرائحة هنا أثر الرصاص، يذهب عميقاً فيك لدرجة مخاواة الذاكرة البصرية. ربما هذا ما يجعل لأي حدث حقيقي أثر يهز أهل هذه البلاد. هم اعتادوا نوعاً من الحياة فيه رفاهية الطمأنينة، والحرب عدوتها اللدود.
لذا فعناوين الصحف هنا، وشعور السيدة بالخطر الداهم برغم كونه بعيداً، وتحول بودابست إلى نقطة متقدمة على جبهة الحرب، جعلني أفكر كثيراً في القلق الذي يتسلل إلى أوروبا من نافذة الحدث العالمي على حدودها الشرقية.
يُطلق القطار صفارته، فأصعد إحدى عرباته. أجلس وأحاول أن أكتب ما لديّ على دفتري بالحبر الأزرق. موسيقى شوبرت تسيطر على رأسي، نقطع بسرعة قياسية السهول الخضراء، نتجه شرقاً، أوروبا لا تزال مشرعة الأبواب لمن فيها، لكن السهول، هذه السهول، والشجر الكثيف حيناً، والنهر، كلها تعيدني إلى عشرات الأفلام التي شاهدتها عن الحروب العالمية، وكيف كانت هذه الجغرافيا مسرحاً لها. ربما هنا اليقين الحاضر عميقاً في وجدان الأوروبيين على عظمة ما يعيشونه من استقرار، والذي يجعلهم اكثر قلقاً تجاه الحرب، من شخص مثلي عاش خلال أربعة عقود من عمره ثماني حروب في بلده وجوارها.
أترك خلفي فيينا، وفيها أيضاً المفاوضات النووية المعلقة حالياً، وأغوص في حلم ليلة شرق أوروبية اسمها بودابست. لكن النووي الذي تركته خلفي يبدو وكأنه سلك ذات الطريق ليربط نفسه عن قصد أو غير قصد بحرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المستعرة داخل جارته الصغيرة، والتي تعد بالمناسبة أكبر دولة في أوروبا بعد روسيا.
ما أطلق عليه بوتين تسمية “العملية العسكرية الخاصة” لم تبدُ بداية وكأنها ستصيب بشظاياها فيينا، لكن الحقيقة أن ما حدث لا يمكن تصنيفه في ميزان العلاقات الدولية دون مستوى الزلزال، وزلزال على درجة ٧ وما فوق. ولأن المحادثات النووية في صلب العلاقات الدولية، فمحال ألا تتأثر
في ليلة ٢١ شباط/ فبراير 2022، حسم بوتين قراره بقلب الطاولة على الدول الغربية من بوابة أوكرانيا. في تلك الليلة كانت الأجواء التفاؤلية تسيطر على فيينا لدرجة أن دبلوماسياً غربياً رفيع المستوى قالها لي بكثير من الاطمئنان، “سيحدث شيء يوم الجمعة (25 شباط/ فبراير)”.
هذه الأمور لا معلومة حقيقية فيها، هي مساحة للتحليل، وتحليلي مخاطرة، لكني أبني هنا على التجربة. محادثات النووي الإيراني لا يمكن إلا وأن تكون قد أصيبت بشظايا معنوية من الأزمة الأوكرانية. ربما هو سؤال يتبادر إلى ذهن الإيرانيين، لماذا الالتزام باتفاق والتراجع عن مطالب في الوقت الذي يبدو العالم على عتبة تحولات كبرى.
الالتزام بحزمة إجراءات، مقابل رفع بعض العقوبات قد لا يكون وقته الآن، ربما يفكر الإيرانيون. لعل الروسي في وضعه الحالي ينحاز أكثر فيصبح الضغط أكبر على الأوروبيين.
ما هي إلا ساعات وخرجت تسريبات إيرانية مفادها أن كبير المفاوضين علي باقري كني سيغادر العاصمة النمساوية إلى طهران للتشاور مع قيادته. لم تكد هذه الأخبار تنتشر حتى خرج كبير المفاوضين الأميركيين روبرت مالي بتصريح لصحفي إسرائيلي نافياً أن يكون هناك اتفاق وشيك أو حتى أن تكون المفاوضات قد دنت من لحظة اعلان التسوية.
منتصف ليل ٢٢ ـ ٢٣ شباط/ فبراير، علي باقري في طريقه إلى طهران عن طريق إسطنبول، وروبرت مالي في غرفته في فندق امبرييال البعيد شارعين عن مكان إقامة نظرائه الإيرانيين، وبالتوازي، جنرال روسي يقود قطعات بلاده العسكرية في طريقها لغزو أوكرانيا.
ما أطلق عليه بوتين تسمية “العملية العسكرية الخاصة” لم تبدُ بداية وكأنها ستصيب بشظاياها فيينا، لكن الحقيقة أن ما حدث لا يمكن تصنيفه في ميزان العلاقات الدولية دون مستوى الزلزال، وزلزال على درجة ٧ وما فوق. ولأن المحادثات النووية في صلب العلاقات الدولية، فمحال ألا تتأثر، فروسيا والغرب، وكلاهما في قلب المحادثات، وعلى جانبي خط الصراع في أوكرانيا، لا يمكن أن يتظاهرا وكأن شيئاً لم يكن، فمصالحهما في هذه اللحظة أكثر أهمية من أي قضية عالمية أخرى، حتى ولو كانت منع “دولة مارقة” ـ بالتصنيف الأميركي ـ من امتلاك القدرة على تصنيع رأس نووي واحد. فأزمتهم يستريح على ضفتيها أكثر من عشرة آلاف من الرؤوس النووية الجاهزة للإطلاق.
ربما هذا ما يجعل الأوروبي العادي في حالة رعب من مآلات الحرب الأوكرانية وارتداداتها، فكل ما تحقق في هذه القارة جاء بعد دمار شامل خلفته الحرب العالمية الثانية، والخطر في الواقع لا يمكن قياسه بالكيلومترات كما تبادر إلى ذهني اشتباهاً في البداية، بل بالوقع الذي يتركه مجرد التفكير بأن يوماً سيأتي تكون فيه حضارة كاملة أمام خطر وجودي.
(*) بالتزامن مع “جاده إيران“.