عندما يخشع غاندي لجونسون.. بربك إرحمني!   

إستوقفتني صورة لرئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، في زيارته الأخيرة للهند، وهو ينحني أمام تمثال للمهاتما غاندي في حديقة مجمع سَبَرماتي أشرَم (Sabarmati Ashram)، ويضع عقداً من قماش الخادي المنسوج يدويّاً على آلة الشارخا. تتسارع الأسئلة في رأسي عما يمثّله غاندي من إرث للإنسانية وما يمثله، في المقابل، سلوك أمثال جونسون ممن ينطبق عليهم قول حكيم الزمان: "إذا لم تستحِ، فافعل ما شئت".

قضى غاندي في سَبَرماتي أشرَم معظم أوقاته بين العامين 1917 و1930. اتّخذ من هذا المكان (الضاحية الشماليّة لمدينة أحمد آباد في ولاية غُجرات غرب الهند) منزلاً وخلوة ومدرسة للتعليم والعمل في بعض مجالات الزراعة وتربية الماشية والإنتاج اليدوي (كالغزل والحياكة). هناك صقل أيضاً أفكاره ولا سيما فكرة الممانعة السلميّة (passive resistance) التي هي أساس فلسفته اللاعنفية. وتحوّل المجمع بعد مقتله إلى متحف يعرض مراحل حياته.. وتراثه.

غاندي عاش كمليارات البشر. له زلّات وأخطاء. جاع وعطش وتألّم. ناضل وعانى وتشرّد. عظمته أنّه رفض الحقد والعنف والطمع، فخُلِّد في ذاكرة التاريخ حتّى ولو أنه لم ينتصر. نتحدّث عن غاندي الإنسان مقابل غاندي الإله الذي أراد لنا البعض أن نعبده، وأن ننحني أمام صورته، ونقرأ كتبه، ونستشهد به. أظنّ أنّ غاندي الإنسان لو كان بيننا اليوم لما أراد منّا أن نؤلّهه أو أن نكتب الكتب والمقالات عنه. أظّن أنّه كان ليقول لنا: بدل كل هذا المجد الباطل والمديح الزائف، لكان أفضل لكم وللعالم أن تعيشوا بلا عنف وترفضوا الحقد وتجتنبوا الطمع فعلاً وعملاً لا قولاً وتنظيراً.

هنا جوهر المعضلة التي لا أجد لها حلاًّ. هل تمجيدنا لغاندي من أجله أم من أجلنا؟ هل الإنحناء أمام تمثاله الذي يزوره سنوياً حوالي سبعمائة ألف زائر يأتي تعبيراً عن تبنّينا لدعوته إلى اللاعنف وإلى الإقتداء بطريقة حياته البسيطة، أم مجرد تبجّح وإعتداد بالذات وتشريفات؟ هل أصبح غاندي سلعة، نشتريها كمساحيق التجميل لنضعها على وجوهنا من أجل تجميلها؟

ما قام به بوريس جونسون كان مبرمجاً بأدق تفاصيله. خلعه لحذائه وكأنّه يقول إنّه في مكان يقدّسه. الإنحناء أمام تمثال غاندي وكأنّه يقول إنّه من أتباعه. إختياره العقد القماشي الخادي وكأنّه يستذكر غاندي وحياكته لملابسه بيديه على آلة الشارخا وأنّه هو ـ اي جونسون ـ ينتج ويأكل بعرق جبينه. إختيار المكان الذي أطلق منه غاندي فلسفته عن الحياة واللاعنف وكأنّ جونسون أراد القول: ها أنا يا معلّمي ومرشدي أتيت إليك لترى كيف أتبع خطواتك اللاعنفية.

لا وألف لا. لم يأتِ جونسون لينحني برأسه إحتراماً لغاندي بل تحقيراً له. شتّان بين ما يمثّله غاندي وبين ما يمثّله الدجّال البريطاني. جاء جونسون لكي يُلمّع صورته وسيرته وهما أقبح من بعضهما البعض. جاء ليمسح يديه بمنشفة غاندي البيضاء، لكي تتلوثّ بوسخ أفكاره السوداء. لذلك نتألّم عندما نرى سياسياً من “طراز” جونسون وسجلّه الحافل بالعنف والحقد والرشوة ينحني أمام تمثال غاندي. الإنحناءة لم تكن بتاتاً إعترافاً بما يمثّله غاندي كشخص وكأرث، بل جعله “كفارة” ودمية ومجرد ديكور.

بقدر ما في الزيارة من رياء وقلّة حياء، بقدر ما فيها أكثر من غطرسة وتحقير لنضال غاندي وعقيدته السلميّة المناهضة للحروب والظلم والاستبداد وتدمير الطبيعة. ألا يعرف صاحبنا جونسون أنّه يدير إقتصاداً يجني المليارات من بيع السلاح. ففي سنة 2019 وحدها، تجاوزت قيمة صادرات بريطانيا من السلاح الـ 11 مليار باوند (14.5 مليار دولار)؛ وفي العقد الممتد من 2010-2019، باعت بريطانيا ما قيمته 86 مليار باوند (112 مليار دولار) من السلاح. وهي بذلك تحتل المركز الثاني في بيع السلاح في العالم بعد أمريكا. لماذا ولمنّ كلّ هذا المال والسلاح؟ هل هو لنشر السلام والقضاء على الفقر، أم للإكثار من الحروب والقتل؟

ألا يدري جونسون أن نمط حياته هو نقيض نمط حياة غاندي؟ ألا يدري أنّ غاندي ما كان ليعقد مؤتمرات عن البيئة لكي يتبجّح في صالونات العالم وعلى الشاشات بوعود كاذبة، بينما النظام العالمي الذي يتبنّاه ويدافع عنه أوصل درجات التلوّث إلى مستويات من شبه المستحيل عكس آثارها الكارثيّة على الأرض والبشر؟

ولنا أن نسأل جونسون عن رئيس وزراء الهند نارندرا مودي ورأيه بغاندي؟ وعن التطرّف الهندوسي الذي يتأصّل في كثير من الأماكن في الهند؟ وهل كان هدفه من زيارة المجمع أن يذكّرهم بغاندي لعلّهم يتوقّفوا عن سياسة الفصل العنصري الذي يطبّقوه ضدّ المسلمين، وتهجير المزارعين من أراضيهم لبيعها إلى الشركات العملاقة، و..

لم يقتل غاندي أو يأمر بالقتل ليس لأنّه كان عاجزاً أن يكون كأوباما أو جونسون أو غيرهم من قادة العالم النيوليبرالي. لم يقتل لأنّه اختار أن يكون عكس هذه الحثالة من البشر. ولم يتألّم غاندي لأنّه أذى أحداً. تألّم عندما رأى الأذى حوله وعجز عن إيقافه بالكلمة والموعظة الحسنة

جونسون ليس الوحيد الذي يتحفنا بوقاحته. إنّها سمة عصر النيوليبراليّة الذي يتحوّل فيه كل شيء إلى سلعة. القوانين وحقوق الناس أصبحوا سلعة تباع وتشترى. المبادئ والقيم أصبحت كمساحيق التجميل، نشتريها عند الحاجة إليها. حتّى الحلم أصبح سلعة، كما نرى في مشروع الميتافيرس، أو العالم الإفتراضي. قال حكيم الزمان: “كل شيء إذا فسد يداوى بالملح، أما الملح إذا فسد فليس له دواء”، وكأنّه تنبّأ عن قادة عصر النيوليبراليّة وأغنيائها، حيث أصبح فسادهم ووقاحتهم وبشاعتهم نماذج يقلّدها كثيرون ولا ينفع معها أي دواء أو حكمة.

إقرأ على موقع 180  روسيا البوتينية وحلم العودة.. قوة عظمى

ألم نرَ تلك الوقاحة عندما منحت لجنة نوبل (سنة 2009) جائزتها للسلام إلى الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. أليس لنا أن نسأل ما كان إنجاز أوباما ليستأهل هكذا تقدير وتكريم؟ وإذا لم يكن لأي شيء قام به قبل أن يحصل على الجائزة، بل لما سيقوم به بعد حصوله عليها، هل أصبح السلام فعلاً في صلب عمله وممارسته؟ الجواب قطعاً لا. فأوباما لم يجلب السلام إلى العالم، بل أمعن في الحرب. أليس تدمير سوريا جرى برعايته؟ وحرب أوكرانيا الحاليّة وضع أوّل أحجارها تحت رعايته؟ وتدمير اليمن وليبيا؟ واستمرار الحرب في العراق وأفغانستان؟ و..

أليس هناك من مانع أخلاقي يحتّم على من يدّعي الشيء أن يحاسب عليه إذا كان في ادعائه غشّ وخداع؟ هل نجد صورة لغاندي محاطاً بمعاونيه، شاخصاً في شاشة عملاقة ليتابع مباشرةً قيام فرق جيشه باقتحام المنازل وقتل أهلها؟ أن يفعل ذلك جنرال يمكن فهمه. لكن أن يقوم بذلك من نال جائزة السلام فهذا عين الوقاحة. إذاً هل لنا أن نطالب بسحب الجائزة من أوباما أو أن يعيدها؟ نعم، لنا أن نطالب، ولهم أن يتجاهلونا لأنّهم صمٌّ بكمٌ عُمّيٌ فهم لا يأبهون.

لم يقتل غاندي أو يأمر بالقتل ليس لأنّه كان عاجزاً أن يكون كأوباما أو جونسون أو غيرهم من قادة العالم النيوليبرالي. لم يقتل لأنّه اختار أن يكون عكس هذه الحثالة من البشر. ولم يتألّم غاندي لأنّه أذى أحداً. تألّم عندما رأى الأذى حوله وعجز عن إيقافه بالكلمة والموعظة الحسنة.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إنها الحرب.. "غُرم" الجغرافيا و"غُنُم" التاريخ