ليس المقصود بالضرورة أنها ستكون أحداثاً كارثية كما لا يمل من ترداد ذلك بعض العابثين بالرأي العام اللبناني، بل إن الأحداث والمفاجآت على اختلافها تبقى مُحتملة مما لا يمكن أن يتوقعه أحد حيث لا شيء يمكن ترجيحه. حتى أن مسألة خروج الرئيس عون وصفق الباب وراءه (أو تركه مفتوحاً) ليست بحدّ ذاتها أمراً محسوماً ومفروغاً منه، بخاصة وأن الرجل نفسه كان قال في كلمة توجّه بها على صفحات جريدة “الأخبار” في تشرين الثاني/نوفمبر 2021 ما نصّه حرفياً: “أنا لن أسلّم إلى الفراغ”، من دون أن ينسى التأكيد بأنه سوف يعمل خلال المدة الباقية له على “وضع الحلّ على سكّته”.. هذا الحل الذي وعد به وكرره غير مرة وبأكثر من أسلوب منذ بداية عهده.
ومنذ أيام معدودة أيضاً، تحدث رئيس الجمهورية بلهجة مشابهة حين أبلغ وكيلة الامين العام للأمم المتحدة، المديرة المساعدة لبرنامج الامم المتحدة الانمائي (UNDP) السيدة أوشا راو موناري خلال استقباله لها في قصر الرئاسة في بعبدا، انه سيواصل العمل في ما تبقى من ولايته على مكافحة الفساد والسهر على انجاز التحقيق الجنائي في الحسابات المالية لمصرف لبنان والادارات والمؤسسات الرسمية الاخرى.
والملفت للإنتباه أن الرئيس عون يتحدث في الأشهر الأخيرة من عهده كما لو كان في الأشهر الأولى منه، وهو يدرك بالطبع أن البلد مشلول والاقتصاد منهار والمجتمع برمته على حافة أسوأ الاحتمالات تحت ضغط منصّات تسعير “إجرامية” لسعر صرف الدولار تواصل وأد الليرة والناس، من دون أن يتصدّى لها لا رئيس ولا حكومة ولا حاكم ولا زعيم ولا موظف ولا مسؤول.
وبينما تتساقط حجارة الهيكل على رؤوس اللبنانيين الغارقين في حالة ملتبسة بين اليأس والضياع والبلادة والتكيف إلى حد الموت السريري، يحاول “حزب الله” ــ ربما للمرة الألف من دون ملل ــ التجسير بين حليفيه الرئيس نبيه بري والنائب جبران باسيل، ليس بطموح تقريب وجهات النظر التي باتت أكثر بعداً عن بعضها مما كانت عليه في أيّ وقت مضى، بل على الأقل في سبيل إقناع الطرفين باعتماد قفازات طرية في صراعهما المستميت للقضاء المبرم على الخصم وتمرير بعض الإستحقاقات ومنها أولاً إنتخاب رئيس المجلس النيابي ونائبه وهيئة مكتب المجلس.
لعل المشكلة الحقيقية كانت دائماً في سوء تقدير رئيس الجمهورية ومجموعة التفكير المحيطة به (إذا كانت موجودة). وأحدث دليل على ذلك أنه يدخل معركته الأخيرة بعد أن “نجح بامتياز” في تقطيع جسور تواصله مع الجميع تقريباً، وقلّ عدد حلفائه ليقتصروا على حزب الله وحده!
وللتذكير فقط، صار حزب الله أكثر تواضعاً في تمنياته ولم يعد يطلّب من باسيل أكثر من ترك حرية التصويت لنواب “تكتل لبنان القوي” في انتخابات رئاسة المجلس. وبالطبع يتوخى حزب الله تأمين عدد إضافي من الأصوات في انتخابات رئاسة المجلس المحسومة النتيجة سلفاً، لكنه يرى إلى ما هو أكثر استراتيجية من ذلك (كعادته) ولا سيما لجهة الحيلولة دون توفير فرصة للقوات اللبنانية من نوع القول إنها صارت قادرة على التحكم بمآلات كل المواقع الدستورية وليس فقط رئاسة الجمهورية!
تفرض الحيادية القول إنه لا مبرر حقيقياً للشك في نوايا رئيس الجمهورية الإيجابية حيال الإصلاحات التي دأب على المطالبة بتحقيقها من دون أن يفعل شيئاً عملياً في هذا الخصوص، أو بتعبير آخر “من دون أن يتيح له الأخصام فعل شيء”، كما يُردد هو وفريقه، لكن بعيداً عن الذرائع والموانع، فإن كثيرين يأخذون عليه إصراره على الإقامة في عالم موازٍ بعيد كل البعد عن واقع البلد ووقائع الشرق “الأصعب” – الأوسط سابقاً – من دون أن يأخذ في الحسبان مستجدات الإقليم و”الأمم” الضاغطة والتي تنذر بحروب سواء على أرض فلسطين أو في الشمال السوري وربما في ساحات إقليمية أخرى. هذا بينما يصر العماد عون على الدوران حول نفسه وإعادة نبش فأس الإصلاح والتغيير ليهوِّل بالضرب بها على العظام الرقيقة لسلم لبناني أهلي متهالك، متجاوزاً الوقائع التي فرضت متغيراتها على الجميع، وهذا ما يضعه وحركته في مسار معاكس للتيار السائد وخارج السياق العام للأمور، برغم تعطش اللبنانيين لرؤية من “يبطش” في مواجهة الفساد والفاسدين، لكن ليس على طريقة كل الطبقة السياسية اللبنانية الحالية..
وكلّما اشتد على عون حصار منافسه المسيحي، يتسلح بخطاب استعادة حقوق المسيحيين، في حين أن المفقود حقاً هو قوة تياره المستمرة في الهبوط أولاً، ثم حقوق جميع اللبنانيين قاطبة، من مسيحيين ومسلمين وأقليات وخلافهم؛ هذه الحقوق التي لم ينتزعوها من بعضهم البعض بل اغتصبتها طبقة من الجراد السياسي المتدثر بعباءات الجميع من دون استثناء.
لعل المشكلة الحقيقية كانت دائماً في سوء تقدير رئيس الجمهورية ومجموعة التفكير المحيطة به (إذا كانت موجودة). وأحدث دليل على ذلك أنه يدخل معركته الأخيرة بعد أن “نجح بامتياز” في تقطيع جسور تواصله مع الجميع تقريباً، وقلّ عدد حلفائه ليقتصروا على حزب الله وحده!
وبشيء من الواقعية، بالإمكان التأكيد أن حزب الله لن يتخلّى عن العهد اليوم كما لم يتخلَّ عنه بالأمس؛ فهو سيواصل دعمه ولا أدنى شك بذلك، إلا أنه لن يغرق في وحول الحروب التي يشنّها القاصي والداني على ميشال عون وتياره. فهموم الحزب وأجندته أكبر وأشمل من ذلك بكثير.
ومن الآن إلى أن يقتنع باسيل بأن معركته الأساسية هي داخل التيار الوطني الحر، وأن فوز نائب بالزائد أو بالناقص، ليس هو بيضة القبان، وأن لعبة الأرقام لن تقدّم ولن تؤخر، ثمة خوف كل الخوف أن تُفضي الرعونة إلى أن تواصل العونية سقوطها المتواصل، ما يفتح الطريق أمام شعار “المجتمع المسيحي فوق كل إعتبار”. بهذا ستصير الفدرالية أكثر من أمنية، وسنكون ليس أمام نهاية عهد بل نهاية بلد، فهل يبادر باسيل إلى لم شمل التيار الوطني الحر أولاً فيكون ذلك مقدمة لفتح صفحة جديدة مع حلفاء الضرورة من أحزاب وشخصيات مسيحية تريد لهذا البلد أن يستمر نموذجاً للتعايش لا أن يكون مصيره التقسيم الحتمي؟