ليس من الشروط أى شىء يتعلق بسجل المرشح الجنائى، أو الأخلاقى، أو كونه متهما، أو مدانا فى قضايا تمس الشرف أو حتى تمس الأمن القومى، أو أن يترشح أثناء قضائه عقوبة السجن.
ويعنى ذلك أنه من حق دونالد ترامب الترشح وربما الفوز بمنصب الرئيس الأمريكى، حتى لو تم إدانته بتهم جنائية، أو حتى بعد صدور أحكام قضائية ضده كالسجن. وترك الدستور لأصوات الشعب الأمريكى القول الفصل فى فوز هذا المرشح أو ذاك بالمنصب الأهم، والأقوى، والأكثر خطورة فى العالم. ومع اقتراب تحقيقات وزارة العدل الأمريكية من شخص ترامب عقب اقتحام وتفتيش فريق من مكتب التحقيقات الفيدرالى منزله بولاية فلوريدا، لم يعد سيناريو ترشح متهم أو مدان للوصول للبيت الأبيض سيناريو بعيد المنال، بل يبدو اليوم واردا وبشدة.
تقول وزارة العدل الأمريكية إن الوثائق الحكومية الرسمية والسرية التى عُثر عليها فى مقر إقامة الرئيس ترامب قد «أُخفيت ونُقلت» على الأرجح من غرفة تخزين كجزء من محاولة «عرقلة» تحقيق مكتب التحقيقات الفيدرالى فى سوء تعامل ترامب المحتمل مع وثائق ومواد سرية وشديدة السرية. ولو تم تأكيد أن ترامب قد أخفى مواداً سرية مأخوذة من البيت الأبيض، فقد يتم اتهامه ومحاكمته بتهمة «عرقلة العدالة».
***
يمثل رفض ترامب الإقرار بالهزيمة والاعتراف بفوز منافسه الديموقراطى جو بايدن حتى الآن تحديا خطيرا أمام آلية الانتقال السلمى للسلطة. وأصبح ترامب أول رئيس فى تاريخ الولايات المتحدة يواجه المساءلة البرلمانية بهدف العزل مرتين، لكن الأعضاء الجمهوريين بمجلس الشيوخ عرقلوا إدانة الرئيس وعزله فى الحالتين. فى الوقت نفسه، يحتفظ ترامب بمكانة فريدة وقوية عند الناخبين والناخبات من الطبقة العاملة البيضاء ممن أشعرهم ترامب بأنهم لن يعودوا منسيين.
وتدعم حالة الهلع الجنونى من جانب الحزب الديموقراطى احتمالات عودة ترامب للساحة السياسية منافسا على مقعد الرئاسة عام 2024، ما يكرره معسكر ترامب من أنه لا يوجد مرشح ديموقراطى يُمكنه هزيمة ترامب.
لا يبدو ترامب إلا أكثر تصميما على الترشح مرة ثانية كرئيس. ولن يستطيع أحد تخيل سيناريوهات فوز ترامب، مع أو بعد أو قبل توجيه اتهامات له، ناهيك عن احتمالات إدانته التى لا يستبعدها بعض الفقهاء القانونيين. وهل لك أن تتخيل عزيزى القارئ/عزيزتى القارئة وجود رئيس أمريكى منتخب يحكم من وراء القضبان وليس من وراء المكتب البيضاوى
يرى أعضاء الحزب الجمهورى أن التحقيقات الجارية مع ترامب، والتى تنحصر فى أربعة ملفات رئيسية؛ فى تهربه الضريبى، وتدخله غير المشروع لتغيير نتائج الانتخابات (خاصة فى ولاية جورجيا)، واقتحام الكونجرس فى 6 يناير/كانون الثاني 2021، إضافة لتعامله مع الوثائق السرية، ما هى إلا استمرار للحملة المناهضة لترامب والتى بدأت مع ظهوره على الساحة السياسية عام 2015 ولم تتوقف أثناء وجوده فى البيت الأبيض، ولا بعد خروجه منه قبل عام ونصف العام.
كما يرى هذا الفريق أن المؤسسات الأمنية، وأجهزة إنفاذ القانون، حاولت ربط ترامب بمؤامرات التواطؤ مع روسيا، وهو ما أضر ترامب واستهلك الكثير من وقته، وحاولت كذلك ربطه بفضيحة أوكرانيا عندما طلب منهم ما يؤكد فساد جو بايدن وابنه هانتر قبل الانتخابات الأخيرة، ومع ذلك استطاع ترامب صد كل تلك الهجمات والمؤامرات.
***
قبل انتخابات 2016 والتى فاز بها ترامب، تضافرت جهود المئات من كبار المسئولين السابقين فى إدارات جمهورية وديموقراطية، ممن عملوا بالبيت الأبيض وتولوا مسئوليات كبيرة فى أجهزة الأمن القومى، للتحذير من أن دونالد ترامب سيكون «أخطر رئيس فى التاريخ الأمريكى» بسبب جهله وعدم كفاءته، وأنهم مقتنعون بأنه سيُعرّض أمن أمريكا القومى وازدهارها للخطر خاصة وأنه غير مؤهل لتولى مهام القائد الأعلى للقوات المسلحة. وحذروا كذلك بأن وصوله إلى البيت الأبيض سيضعف القوة الرمزية للولايات المتحدة فى العالم، مشيرين إلى جهله بمبادئ الدستور والقوانين الأمريكية.
من ناحية أخرى، يبدو أن ترامب قد أسعده اقتحام وتفتيش منزله فى ولاية فلوريدا، فقد قدم نفسه مرة أخرى كضحية لمؤامرات الدولة العميقة، ودفع ذلك بالشعب الأمريكى للتركيز عليه بصورة كبيرة جدا مرة أخرى، وهو ما استغله ترامب لجمع ملايين الدولارات لحملته الانتخابية القادمة.
واستغل ترامب هذه الحادثة لتأكيد زعامته المطلقة للحزب الجمهورى. واحتشد خلفه قادة الحزب الجمهورى بالكونجرس الذين كانوا يحتفظون بمسافة بعيدة عنه، وكذلك فعل المنافسون المحتملون على ترشيح الحزب الجمهورى للرئاسة مثل حاكم فلوريدا رون دى سانتيس ونيكى هيلى وحتى نائب ترامب السابق مايك بينس.
فى الوقت ذاته، دعا الكثير من أنصار ترامب عبر الإنترنت إلى حرب أهلية للدفاع عن بطلهم.
مما لا شك فيه أن ترامب قد أضر بالديموقراطية الأمريكية، إلا أنه ما زال بوسعه الإضرار الإضافى حال تم تطبيق القانون ضده، وبعد صموده قانونيا بعد محاولاته سرقة الانتخابات، قد تتعرض منظومة القضاء الأمريكى المستقل لهجوم شرس وغير مسبوق. وعندما غادر ترامب البيت الأبيض يوم الأربعاء 20 يناير/كانون الثاني 2021، تخيل الكثير من الخبراء أن إرثه سيكون على الأرجح أمة أمريكية أكثر انقساما سياسيا، واجتماعيا، وثقافيا، عما كان عليه عندما تولى السلطة، لكن لا يبدو أن شبح ترامب ذهب بلا عودة.
***
تقليديا وتاريخيا يشعر أى مرشح سياسى بالحرج إذا واجه مشاكل قانونية، ويختار المرشح حينذاك أن يوقف حملته الانتخابية وينسحب من هذا السباق بدافع الشعور بالحرج أو العار. وعلى النقيض، لا يبدو ترامب إلا أكثر تصميما على الترشح مرة ثانية كرئيس. ولن يستطيع أحد تخيل سيناريوهات فوز ترامب، مع أو بعد أو قبل توجيه اتهامات له، ناهيك عن احتمالات إدانته التى لا يستبعدها بعض الفقهاء القانونيين.
وهل لك أن تتخيل عزيزى القارئ/عزيزتى القارئة وجود رئيس أمريكى منتخب يحكم من وراء القضبان وليس من وراء المكتب البيضاوى، ولكن علينا أن نتخيل السيناريو الآخر، والذى يعد أكثر قتامة لمستقبل الديمقراطية الأمريكية، وهو خسارة ترامب الانتخابات القادمة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“