من حق اللبنانيين، اللبنانيين الانقياء، الذين ينتسبون الى الجمال والفن والشعر والمسرح والرسم والموسيقى، من حقهم ان يحتفلوا بحناجرهم، بصدورهم، برقصهم، بجمالهم، بشعرائهم وكتّابهم وفنانينهم. ولبنان، بعد اليوم، إن حكى، فسيحكي عن تعلقه بلبنان الابداع. بلبنان “المياس”.
في لبنان اليوم، لبنانان. لبنانهم التافه والسافل، ولبنان النخب الفنية والفكرية والثقافية والابداعية. هو هذا اللبنان، المفتوح على الابداع والجمال والحضور العالمي. “ميَّاس”، سطرت برقصها، وبتموجات اجسادها، وموسيقى اياديها، ومخيلة الحواس، وايقاع الروح، وفتوة الايقاع، وسحر الاقامة، ورغبة الفوز. وهو فوز جمالي. فوز حقيقي، فوز انساني. فافرحوا يا أيها اللبنانيون، وليكن الفن بطاقة هويتكم. مزّقوا بطاقاتكم الطائفية القذرة.
فرح عام وعالمي بما انجزته “ميَّاس”. صفقت لها قلوب مليونية. العالم عرف لبناننا الحقيقي. أما لبنانهم الموحل، فهو تافه وليس جديراً بالحياة النقية. هو فقط، يهوى السقوط. أما الفن، فيهوى الصعود.
هل هذا تبجيل؟ طبعاً. التاريخ البشري لم يحفظ لنا اسماء القراصنة وشياطين السياسة. اكتفى بسيرة المعارك والملوك والمعتقدات. مات الكثير فيها واندثر. ألا يحق لنا ان نتساءل لماذا لم يمت الفن المصري؟ الفنان البابلي، الفن الاغريقي، فن ما قبل التاريخ وما وبعده وما إبانه… طبيعي. الفن صادق، جميل، معبر، مفرح، عميق، وخالد. وأؤكد على الخلود. راجعوا ذاكرتكم. ابحثوا في “غوغل” عن عظماء الملاحم، وعباقرة المسرح، وعباقرة الشعر، وكل ما أبدعه الانسان… وإذا كان التاريخ قد حفظ لنا شيئاً من السياسة، فلا نجد فيه الا القتل والسفك ومراودة الدم، وفتح ابواب الجحيم. السياسة تعيش على القوة. والقوة بلا اخلاق، وبلا ابداع.
الفن، نقاء الروح. تعبير غير معاد. الفن يتجدد، يتحول، يتوالد. هو فضاء واسع وفسيح. السياسة مكائد ومصائد و”السيف اصدق انباء من الكتب”. ما بقي منك يا متنبي، شعرك، وليس سيفك.
شعرت إبان انخطافي بـ”ميَّاس”. انني انتقلت بجسدي الى فضاء، لم اسكنه ولم اعرفه من قبل. لم يكن بسبب الاعجاب فقط. ولا كان بسبب تلك الحركات المائلة والمستديرة والمتقنة. ايقاع حركي موحد ومتعدد في آن، بل أخذتني “ميَّاس”، الى عبقرية الجهد ومشقة الاتقان، ودقة الايقاع وسرعة الحركة، وتناسق الأجساد، مع الموسيقى. والأكثر إلحاحاً للإعجاب، هو سلامة الابداع. كل ما في “ميَّاس” رائع وجديد. ابداع لا تقليد. ابداع غير مسبوق.
لن اكتب لائحة بمن رفعوا اسم لبنان عالياً. الى من حلقوا ببيروت. عاصمة الشعر والفن والموسيقى. وحدها القاهرة كانت تأنس بودها وثقافتها مع بيروت. رقصة الابداع جعلت لبنان يرفع بعلبك الى مصاف “حناجر الالهة”. لن اذكر كل الاسماء التي كان لبنان رَحَمَها. سأذكر بعض ما تأسس في بيروت وانتشر من المغرب الى المشرق. التجديد في الشعر. تزامنا مع نازك الملائكة العراقية. مجلة “شعر”. صارت عاصمة الابداع الشعري. نقلت القصيدة ونقلت الفن والتفكير بالمستقبل والانفتاح على الما بعد، الى ما بعد “قفا نبكِ” والى ما بعد العصر الكلاسيكي. مجلة “شعر”، مجلة التجديد، انطلاقاً من الفضاء الانساني وعالمية الابداع، بخصوصية ما بعد وما فوق البيئة: الانسان هو إله الفن.
كانت بغداد، شقيقة لبيروت، فناً ورسماً وشعراً. كانت دمشق، شقيقة بيروت. اسماء شعرائها ترسخت في لبنان. محمد الماغوط. لم يكن لبنانيا او سوريا. كان عالميا. كذلك ادونيس. أما محمود درويش الفلسطيني، فنصف ابداعه كان في لبنان. وكانت المنافسة بين الجديد والكلاسيكي. عنوان العناق النقدي، بين “الآداب” لسهيل ادريس، وبين مجلة “شعر”. اعف عن ذكر الاسماء. لأنها تتفوق على ذاكرتي. لكثرتها ومساهماتها.
شعرت إبان انخطافي بـ”ميَّاس”. انني انتقلت بجسدي الى فضاء، لم اسكنه ولم اعرفه من قبل. لم يكن بسبب الاعجاب فقط. ولا كان بسبب تلك الحركات المائلة والمستديرة والمتقنة. ايقاع حركي موحد ومتعدد في آن، بل أخذتني “ميَّاس”، الى عبقرية الجهد ومشقة الاتقان، ودقة الايقاع وسرعة الحركة، وتناسق الأجساد، مع الموسيقى
هل اتحدث عن المسرح؟ شكسبير زارنا مراراً. على يدي منير ابو دبس. هاملت عرفناه ايضاً، لبنانياً وعربياً. كبار مخرجي المسرحيات جاؤوا من سوريا والمغرب وتونس والعراق والقاهرة. كانت بيروت عاصمة الفن. فهل نستعيدها. سيحصل ذلك بعد هزيمة شياطين السياسة المطوبين بالفساد.
لست متابعاً للرياضة. كل علاقتي بالكرة، هي علاقة عين فقط. اشاهد، اضجر، اطفىء التلفاز. اعذروني. لقد وعيت على امر خطير. لبنان الحقيقي. هو لبنان الرياضة ايضاً. نحن دولة ملعونة، معطوبة، مفلسة، ومع ذلك. يتصدر لبنان في كرة السلة. الملاعب الدولية. يفوز ويفوز، وحناجر اللبنانيين تهتف بهذا الانجاز. لبنان الرياضي، ليس ابن لبنان السياسي. هو ابن التريض، والممارسة، والاتقان، والإبداع، والفن، والجهد والمثابرة.. لبنان الصغير هذا، معافى. لبنان الكبير معتل، كأن لا شفاء له.
مجد لبنان اعطي للفن، للثقافة، للرياضة، بكل فروعها. كرة القدم تحقق انجازات. كرة الطائرة كذلك. لسنا معطوبين. الانسان فينا إذا انتمى الى الانجاز، والبطولة، والتعبير. يقود الى صراط لبنان الانسان. إخس. لبنان الطوائف مزبلة. ولا تكمل يا قلمي اوصاف لبنان المسخ هذا، كي لا تتسخ صفحة الابداع والبطولة والفن.
نحتاج الى “البوم” فسيح وعميق وواسع، لنذكر فيه اسماء مبدعين جدد، يقتحمون الآفاق، هنا وهناك وهنالك. السينما اللبنانية، برغم ضيق ذات اليد، تنتج وتنتج. اعتذر من برامج الاستهلاك المحلي السينمائية، ومسلسلات الرخص، التركي – اللبناني. عيب.
لنفتح الذاكرة على الفن التشكيلي. الاسماء لا تعوزكم. القدامى والجدد. لبنان متحف جمالي تشكيلي. وبرغم سِعار الطوائف، لا تزال الصالات تزدحم وتحيي. لن تعوزكم الاسماء، من برج فازيليان، الى جميل ملاعب وعادل قديح و..و.. وكثيرين بعدد رمل البحر.
والفنانون اللبنانيون منتشرون: أمال اندراوس، مديرة كلية الهندسة الجمالية في كولومبيا. هي لبنانية. محترف “زقاق” ومايا زبيب. حامد سنو. حامل مشروع “ليلى”. كمال مزوق، مفتتح مغامرات اكتشاف لبنان غير المرئي. ربيع كيروز المذهل وصاحب ابداع لأزياء عصرية بنكهات مختلفة. كريستين طعمة، دانييل عربيد والممثلة منال عيسى. هل سمعتم بأسمائهم. ربما لا. هؤلاء ينحتون الصخر ويتركون على حجارتها بصمة لبنان..
لبنان، هذا يستحق الرهان عليه. انه لبنان الآخر الذي لا يموت. انه كالرحبانيين وفيروز. انه كعمالقة الموسيقى، من زكي ناصيف الى العبقري زياد الرحباني الى.. الى.. ان ينقطع النفس.
اخيراً. إلى “ميَّاس” تحية من القلب. اعجاب بإعجاز تحقق.
لبنان الحقيقي هو أنتم، ايها الفنانون، ويا سلالة الابداع من أول الابجدية، منذ سومر، الى “كورس” الشعر، وأعمدة سعيد عقل.
شكراً لكل من قدم معجزة العام 2022 على مسارح العالم. ودعوة، الى اعتبار الفن، سلماً يرقى دائماً الى فوق. لدينا تراث انساني عميق. استعيدوه..
اننا نحبكم.
أخيراً؛ اتركوا لي فسحة صغيرة، لأحتفي بابني نصري الصايغ جونيور، الذي اختيرت لوحته في معرض روات في فرنسا، ووزعت “بانويات” في محطات المترو في باريس في تموز/يوليو الفائت.
يا احباءنا في “ميَّاس”. اننا ننتظركم. نحن مقيمون على قارعة انتظاركم، وانتظار غيركم.
دعوتي، اخيراً، الى نشاط ثقافي فني. املأوا المدن والقرى انشطة فنية. صحيح ان الخبز في لبنان مشكلة. فليكن خبز الفن، تعويضاً، بل فتحاً لشبع وطني مقدس.
شكراً يا “ميَّاس”. والى اللقاء، دائماً.