يوم الأحد الماضي، ألقت القوات الأميركية صاروخين من طراز Hellfire، وقتلت أيمن الظواهري، خليفة أسامة بن لادن في قيادة تنظيم “القاعدة”. كان الظواهري، لحظة مقتله، يقف على شرفة منزل؛ يُفترض أنه آمن؛ في العاصمة الأفغانية كابول. وهو الإسم الأخير على لائحة “المطلوبين”، المُتهمين بأحداث 11 أيلول/سبتمبر، شملت أيضاً بن لادن وأبو مصعب الزرقاوي وأبو بكر البغدادي وأنور العولقي.
بالنسبة لواشنطن، يمثل مقتل الظواهري نهاية فصل من “الحرب على الإرهاب”. وبالنسبة لـ”القاعدة“، يُشكل موت الظواهري تحدياً كبيراً على المدى القريب فيما يتعلق بالخلافة، وتحدياً أكثر صعوبة على المدى البعيد يتمثل في حل مجموعة من التوترات والتناقضات الداخلية، التي ظلَّ التنظيم يتغاضى عنها لسنوات، وعدم حلها يهدد وجوده واستمراره.
من الطب إلى “الجهاد”.. والإفتقار للكاريزما
ينحدر ايمن الظواهري (مواليد 1951) من عائلة مصرية ثرية ومرموقة. كان والده، محمد، طبيباً جراحاً، وسيتبعه الظواهري الشاب في هذه المهنة، ليتخرج من جامعة القاهرة بشهادة في الطب عام 1974. لكن القضية الرئيسية بالنسبة له كانت “الجهاد“، و”الكفاح المسلح ضد النظام المصري” من منطلق أن الحُكام ارتكبوا الردَّة بعدم تطبيق الشريعة وأقاموا علاقات ودّية مع إسرائيل والدول الكافرة. كانت هذه الأيديولوجية وراء اغتيال الرئيس المصري أنور السادات عام 1981، وهو الحدث الذي شارك فيه الظواهري. وبعد أن أمضى حوالي أربع سنوات في السجن (…)، ظهر الظواهري في أواخر الثمانينيات كقائد لحركة الجهاد الإسلامي المصرية، المعروفة أيضاً باسم “جماعة الجهاد”، سعت إلى إسقاط الحكومة المصرية. في التسعينيات، لجأ الظواهري إلى أفغانستان واقترب من بن لادن، وفي النهاية حصل الاندماج الرسمي بين المنظمتين في حزيران/يونيو 2001، أي قبل وقت قصير من هجمات 11 أيلول/سبتمبر، وأُطلق عليه اسم “قاعدة الجهاد”، وهو الاسم الرسمي لتنظيم “القاعدة” الذي لا يزال سارياً.
سيف العدل وعبدالرحمن المغربي على رأس الترتيب القيادي لخلافة الظواهري.. لكن إقامتهما في طهران تجعل كفة الخلافة تميل لصالح يزيد مبراك أو أحمد ديرية
في أفغانستان، أهمل الظواهري إستراتيجيته (الجهاد الإقليمي) ليركز على الجهاد العالمي الذي ينتهجه بن لادن، من منطلق أن مهاجمة الولايات المتحدة والغرب شرط أساسي لنجاح الثورة في العالم الإسلامي. كان جُلَّ هدفه توجيه ضربة لأميركا وإخراج قواتها العسكرية والدبلوماسية من المنطقة. كان هذا المفهوم أساس التخطيط لهجمات 11 أيلول/سبتمبر، واستمر كشعار رئيسي لـ”القاعدة”، برغم فشله على مدار العشرين عاماً الماضية.
سيتم تذكُر الظواهري لأشياء كثيرة، بما في ذلك العديد من النصوص الإيديولوجية والكتب الضخمة التي أعدها في التاريخ والدين، ومذكرات من 500 صفحة بعنوان “فُرسان تحت راية النبي”، وغيرها. كما أنه يترك وراءه مجموعة كبيرة من الخُطب والمحاضرات التي ألقاها عبر مئات الساعات من مقاطع فيديو أو تسجيلات صوتية. وفي الواقع لم يكن الظواهري بليغاً. كان يفتقر بشكل لافت للإنتباه إلى الكاريزما، وربما كان إنتاجه الإعلامي؛ الغزير والمتكرر؛ قد أضر بسمعته بدلاً من تعزيزها.
كان الظواهري مثمراً في إنتاجه لدرجة أن المرء يتساءل كيف كان لديه الوقت لإدارة شؤون منظمة إرهابية عالمية. عندما تولى الظواهري قيادة “القاعدة” بعد مقتل بن لادن في عام 2011، كان الزعيم بلا منازع للحركة الجهادية العالمية. لكن بحلول أواخر عام 2014، لم يعد هذا هو الحال. والسبب: صعود الدولة الإسلامية (داعش)، التي تفوقت على “القاعدة” وأصبحت المنظمة الجهادية الأكثر نفوذاً في العالم. وحتى اليوم، تحتفظ “داعش” بعلامة جهادية أقوى بكثير؛ وهي النتيجة التي ساعد الظواهري في تحقيقها، وشكلت الجانب الأكثر إثارة للجدل في إرثه.
كيف حصل ذلك؟
في منتصف عام 2013، شرع الظواهري في تسوية نزاع بين مرؤوسين متنافسين في العراق وسوريا. كان البغدادي قد أعلن عن توسيع فرع “القاعدة” الذي قاده (“دولة العراق الإسلامية”) إلى سوريا، وأسس ما أسماه “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. غير أن زعيم الفرع السوري من “القاعدة“، “جبهة النصرة”، احتج وناشد أمير التنظيم علناً التدخل. وفي رسالة بثتها قناة “الجزيرة” في عام 2013، أمر الظواهري البغدادي بالتراجع وحصر أنشطته على العراق. لكن البغدادي قاوم، مدعياً أن الأمر مُخالف للشريعة. ولم يمضِ وقت طويل حتى أعلن “داعش” أن الظواهري و”القاعدة” قد انحرفوا عن المسار الجهادي الحقيقي من خلال التساهل مع الحُكام المسلمين المرتدين والشيعة. وبعد مرور عام واحد، أعلنت “داعش” نفسها “دولة الخلافة”، واستولت على مدن رئيسية ومساحات شاسعة من الأراضي في العراق وسوريا، وجذبت انتباه العالم ومعه مخيلة المتعاطفين من الجهاديين في جميع أنحاء العالم الإسلامي، الذين سافر الآلاف منهم إلى المنطقة للإنضمام إلى “داعش”.
بعد ذلك بعامين، سعى الفرع السوري لـ”القاعدة”؛ الذي تدخل الظواهري لإنقاذه؛ إلى دور أكبر في الصراع الدائر ضد النظام في دمشق (وتحديداً ضد الرئيس بشار الأسد). وفي محاولة لتلبية احتياجات جمهور أوسع وطمأنة حلفاء جُدد، تخلى قادة فرع سوريا عن قَسَم الولاء الذي كانوا تعهدوا به لأميرهم، الأمر الذي اعتبره الظواهري “خيانة لا تُغتَفر”.
هكذا فقد “القاعدة” وجوده في قلب العالم العربي. لقد تم الطعن في سلطة الظواهري مرتين. وخسر مرتين. وفي الوقت نفسه، أدَّى مقتل عدد من الشخصيات البارزة، الذين لجأوا إلى سوريا، إلى مضاعفة تراجع التنظيم.
الملاذ الآمن؟
لم تكن كل فترة الظواهري فوضى. تحت قيادته، قاومت فروع “القاعدة” في شمال إفريقيا والصومال واليمن شبح “داعش”، وظَّلت موالية للتنظيم، وتشكَّلت فروع جديدة وناشطة في جنوب آسيا ومالي. لقد حقق الظواهري قدراً من النجاح في الحفاظ على تماسك التنظيم، لكنه لم يمنع “المنافس” من التفوق عليه وتدمير قيادته الأساسية. كما أن الظواهري لم يحقق هدفه الرئيسي: مهاجمة الولايات المتحدة، التي لم تتعرض لأي “هجوم ناجح” منذ 11 أيلول/سبتمبر، وآخر عمل ناجح للإرهاب الدولي وقع في عام 2002 في مومباسا، كينيا؛ وهي عملية تم التخطيط لها قبل 11 أيلول/سبتمبر.
وحقيقة أن الظواهري قُتل في كابول؛ وأن المخابرات الأميركية كانت قادرة على النيل منه هناك؛ تُحيي النقاشات المستمرة منذ فترة طويلة حول قرار سحب القوات الأميركية من أفغانستان وكيفية التعامل مع نظام “طالبان” الحاكم.
صعود “داعش” الأكثر جدلاً في إرث الظواهري: ساهم في وجودها فطعنت في سلطته وزاحمت “القاعدة” على وجوده في قلب العالم
بدا “القاعدة” وكأنه يستعيد حظوظه مع عودة “طالبان” إلى السلطة، في آب/أغسطس 2021، والتي وصفها التنظيم بـ”الانتصار الدراماتيكي” لقضية الجهاد العالمي. ويخشى كثيرون من أن توفر “طالبان” المجال لـ”القاعدة” لإعادة بناء صفوفه وتوحيدها. ومثل هذه المخاوف لها ما يبررها بالتأكيد، برغم أن العلاقة بين الجماعتين معقدة. وكما ذكر البنتاغون مؤخراً: “في حين أن لقادة “القاعدة” علاقات وطيدة مع كبار قادة طالبان، فإن قدرة “القاعدة” على السفر والتدريب داخل أفغانستان محدودة، وقد تكون مقيدة بسبب جهود طالبان لتحقيق الشرعية الدولية”. وقد تنتهي هذه القيود “على مدى 12 إلى 24 شهراً المقبلة”، وفقاً للبنتاغون. وعلى الرغم من تداخل مصالح المجموعات في كثير من الأحيان، إلا أنها ليست متطابقة. فـ”القاعدة” يسعى إلى تدمير النظام الدولي، أما “طالبان” فتسعى للانضمام إلى هذا النظام. وفي أحد مقاطع الفيديو الأخيرة انتقد الظواهري “طالبان” لسعيها إلى تمثيل أفغانستان في الأمم المتحدة، لأنه يعتبرها “كافرة” ويجب تدميرها.
لطالما كان هناك مناخ من عدم الثقة في علاقة “القاعدة” مع “طالبان“. وتُظهر الوثائق التي تم العثور عليها في المجمع الذي قُتل فيه بن لادن في باكستان (2011) أن بن لادن كان يراقب باهتمام نشاطات قيادة طالبان، ورأى أنها منقسمة بين معسكر من “المؤمنين الأتقياء”، وفصيل “منافق” يعمل بأمر المخابرات الباكستانية وعلى استعداد لبيع “القاعدة”. وردَّد هذا مخاوف جهاديين عرب الآخرين: على سبيل المثال، اشتكى الخبير الإستراتيجي الجهادي السوري أبو مصعب السوري من أن فصيلاً من قيادة “طالبان” لا يريد أي علاقة بالجهاد العالمي، ويسعى فقط إلى إنشاء دولة محافظة في أفغانستان تشبه السعودية. ولاحقاً، اتخذت قيادة “داعش” موقفاً أكثر عدوانية تجاه جهاديي “طالبان”. ومنذ الإعلان عن مقتل الظواهري، شنَّ أنصار “داعش” حمل سخرية عبر مواقع التواصل، وأعربوا عن شماتتهم لأنه كان يعتقد أن “طالبان” ستحميه، وذهبوا إلى حد الترويج لفرضية أن “طالبان” قدمت الظواهري على طبق من الفضة للأميركيين.
واشنطن لا تزال لديها عيون وآذان في أفغانستان والكثير من المتعاونين؛ وربما حتى داخل “طالبان”
مثل هذه الادعاءات مُبالغ فيها. “طالبان” ليست حركة موالية لأميركا، وقيادتها لم تكن تريد قتل الظواهري. ويُقال إن المنزل الذي أُستهدف فيه الظواهري كان مملوكاً لأحد كبار مساعدي سراج الدين حقاني، وزير داخلية حكومة “طالبان”، والأرجح أن الظواهري كان هناك بناء على دعوته. لكن ربما شخصاً آخر في “طالبان” كان مهتماً بمكافأة الـ25 مليون دولار؛ التي قدمتها واشنطن؛ أكثر من اهتمامه بحماية الزعيم الجهادي. وحقيقة أن الظواهري قُتل في أفغانستان التي تحكمها “طالبان” تثير تساؤلات حول تعهدات “الحركة” بمنع استخدام أراضيها لشن هجمات إرهابية. وحقيقة أن القوات الأميركية كانت قادرة على قتله هناك تلقي بظلال من الشك على فكرة أن أفغانستان يمكن أن تكون بمثابة منصة لإحياء “القاعدة”؛ حتى لو سمحت طالبان بذلك. من الواضح أن واشنطن لا تزال لديها عيون وآذان في أفغانستان والكثير من المتعاونين؛ ربما حتى داخل “طالبان”.
من سيكون الخليفة؟
التحدي الأكبر الذي يواجه “القاعدة” على المدى القريب هو الخلافة. يعتقد معظم المحللين أن الشخص التالي في الترتيب القيادي للتنظيم هو المتشدد المصري الشاب سيف العدل، الذي يعيش في إيران منذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر. ويأتي بعده عبد الرحمن المغربي (مغربي الجنسية)، وهو صهر الظواهري ورئيس العمليات الإعلامية لـ”القاعدة”، ومقيم أيضاً في إيران. وحقيقة أن كلا الشخصين يقيمان في إيران ليس أمراً غير مهم. فعلى الرغم من أنهما قد لا يكونا هناك طواعية، إلا أن الأمر يُعقد صعودهما المُحتمل (…)، وسيكون من الصعب على “القاعدة” تقديم زعيمه التالي للبيعة وهو يتولى منصبه من شبه الإقامة الجبرية في إيران، فهذا من شأنه أن يشجع الشكوك في أن التنظيم كان تحت سيطرة طهران.
إذن، ربما ينحدر القائد التالي بدلاً من ذلك من إحدى الجماعات التابعة لـ”القاعدة”. ووفقاً لتقرير حديث للأمم المتحدة، فإن خط الخلافة يُسمي يزيد مبراك (في شمال إفريقيا)، وأحمد ديرية (في الصومال) على أنهما التاليان، بعد الزعيمين المتمركزين في إيران. لكن العدل والمغربي، اللذين يعملان في الظل لفترة طويلة، قد لا يرغبان في التخلي عن السلطة للفروع الإقليمية. كما أنه ليس من الواضح ما إذا كان القادة المنتسبون مهتمين بتولي زمام الأمور، لأنهم لم يظهروا إلتزاماً باستراتيجية “العدو البعيد”، التي وضعها الظواهري.
إذن، ما سيأتي بعد ذلك بالنسبة لـ”القاعدة” غير واضح. ومن غير المرجح أن ينتهي التنظيم، لأن العلامة التجارية لا تزال تقدم قدراً كبيراً من الشرعية الجهادية لفروعها الإقليمية، ما يوفر هوية وعلماً للالتفاف حولهما. لكن التنظيم لن يكون قادراً بعد الآن على تجاهل المشاكل الداخلية التي تفاقمت منذ هجمات 11 أيلول/سبتمبر: العلاقة غير المريحة مع إيران، انعدام الثقة وعدم التوافق مع جزء من حركة “طالبان”، وغياب استراتيجية مشتركة بين القيادة المركزية والفروع التابعة لها. إن إدارة منظمة عالمية من المتشددين الملتزمين أيديولوجياً لم تكن يوماً مهمة سهلة؛ وبالنسبة لـ”القاعدة”، فقد أصبح الأمر الآن أكثر صعوبة.
– النص بالإنكليزية على موقع “الفورين افيرز“. كول بونزل، من معهد “هوفر”- جامعة ستانفورد، ومحرر مدونة Jihadica.