أثناء فتوحات بلاد الشام، زارها الخليفة عمر بن الخطاب. أخبروه عن الطاعون في بادية الشام. فهمّ بالرجوع. بادره أبو عبيدة بن الجراح: “أعن قدر الله تفر يا عمر”؟ فأجابه: ”من قدر الله الى قدر الله”. فكانت نتيجة ذلك وفاة أبو عبيدة بن الجراح بالطاعون، ونجاة عمر.
لا نجاة لنا. في حديث السفينة، أن النبي (ص) قال “إن مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح (عليه السلام)، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق”. مشكلتنا أننا تحكمنا مافيات. ترفّع بعضها عن لقب الميليشيات، فإذا البلد كله صار متخلفاً. صرنا بلا اسم وبلا هوية. إخراج القيد نفدت أوراقه من سجلات النفوس. جوازات السفر شبه مقطوعة. كما غنّى مرسيل خليفة “وقفوني عالحدود، قال بدهم هويتي، قلتلهم إنها بيافا مخبايتها ستي”. رئيس دولة فلسطين المزعومة في الأمم المتحدة يستجدي دولة من نفايات إسرائيل. يلوّح خليفة عرفات بشارة النصر الذي لا يحتاج سوى الى إصبعين. في فلسطين دولة ولا دولة. واحدة أو اثنتان. في لبنان دولة ولا دولة؟ دوار الرؤوس يحول دون الجواب. الجواب يحتاج الى تفكير.
معظمنا يائس. مصاب بداء الإحباط، ووباء العدم، واللاجدوى. على هذه الأرض نبحث عن الموت فلا نجده. كما قال الشاعر الوزير المهلبي:
ألا موت يباع فاشتريه/ فهذا العيش ما لا خير فيه
خرجت قوارب الموت تبحث عن موت أقل ذلاً مما نحن فيه في لبنان. والغريب أنها جميعاً تخرج من أقاصي شمال لبنان، وأن الراحلين فيها هم لبنانيون وسوريون وفلسطينيون، وأعمارهم تتراوح بين الطفل الرضيع والشيخ العجوز، من الإناث والذكور. لكن نقطة الانطلاق هي دائماً من لبنان، مركز الاستماتة في المنطقة. لم نعد نصلح للموت شهداء، بالإذن من أصحاب تبجيل الشهادة. أنهكتنا الحياة:
تغيرت البلاد وما عليها/ فوجه الأرض مغبرٌّ قبيح
(نُسِبَ هذا البيت الى سيدنا آدم الذي قاله بعد الهبوط، وقبل أن توجد اللغة العربية).
صار معظم الشعب اللبناني منبوذاً لا بسبب الفقر المدقع وحده، ولا بسبب هبوط المنزلة الاجتماعية من طبقة وسطى الى بروليتاريا رثة، الى جحافل من معدمي العيش والكرامة لا مكان لهم في لبنان؛ حتى النظام الطائفي الداعر نبذهم. صنّف الدعارة كما شِئت. لكن سوق الدعارة واسع جداً في الفضاء اللبناني
تُحدّثنا محطات البث عن قوارب الموت باستغراب. ألا يُسْتغرب هذا الاستغراب، وفي كل نشرة بلاغات عن أزمات قاتلة لا تعد ولا تحصى؟ وكلها تكفي لفكفكة أواصر أي بلد أو مجتمع. جاء التعبير عن ذلك من طرابلس وعكار. الأسباب لا تحتاج الى شرح. فالأسباب تحت جلودنا أو هي في النخاع. صار لبنان الذي عرفناه وتعودنا عليه، وصار تاريخه الفعلي بالنسبة لنا، نحن الذين قاربنا ثمانيناً من الأعوام، وكأنه أسطورة. اختفى لبنان الحبيب الى قلوبنا، والذي كان مؤسطرا على شكل آخر في الايديولوجيا اللبنانية. صار رماداً يصعد منه طائر فينيق “الميّاس” الذي يشتمه البعض من أصحاب الدين السلفي الذي مضى أجله أو الدين القومي الإستبدادي الذي أصابه الكساد.
لبنان الصورة الجميلة التي كانت في أذهاننا لم يكن في أي مرحلة مطابقاً للواقع. لم يكن في أي مرحلة يعاني أزمة الموت كما اليوم. لكن الموجات من الهجرة منذ أواخر القرن التاسع عشر الى اميركا، ثم أفريقيا، والأكثر الى أستراليا، ثم أوروبا، كانت في بدايتها بدافع الفقر النسبي، ثم بغرض الحياة في الغرب أو كثرة الربح في أفريقيا. كان المرء يستطيع أن يهاجر سعياً وراء حياة أفضل، أو لا يهاجر قناعةً بما يوجد في لبنان، الذي لم يكن كافياً في أي وقت من الأوقات. لكن فروقات المداخيل لم تكن بمثل هذا الاتساع. بذاءة الثروات الكبيرة لم تكن بمستوى على هذا العهر إذا قابلناها بمستوى الفقر. انتقلنا من فقر مدقع الى فقر مطلق في العقد ونصف من السنوات الماضية. في كل عهد سابق كان البعض يصعد سريعاً على سلّم الثروة. الآن أصبح الصعود سوبرسونيك، أي أعلى من سرعة الصوت، ومعظمه اعتمد على سرقة ونهب أموال الداخل. كان المغترب يهاجر ليعود كي يحاول عيش الصورة الجميلة. لم يعد الأمر كذلك.
لم يعد الفقر هو الدافع الوحيد للهجرة. الأسباب صارت أعمق وأكثر تجذراً بانحدار الحياة الإنسانية. أنت في بلد لا يريد الطبابة لك، ولا الخبز، ولا التعليم لأولادك، ولا كرامة العيش لك، ناهيك عن حال الطرقات، والكهرباء، والمياه، والمشاريع التي تلزّم ولم توضع موضع الخدمة، أو هي مبنية كي لا تكون صالحة للخدمة، وبعضها معطّل كي لا يصير صالحاً للخدمة (خاصة الكهرباء). إضافة الى عقود تعقد عقب بحث الدائن في قابلية البلد للاستدانة، الى مرحلة التسوّل، لتكون المساعدات، حتى النفط، مساعدات إحسان لبلد يستحق الشفقة. لم يكن الدَيْن للاعمار بل للإنفاق على الاستهلاك، بما فيه التوظيف العشوائي الذي لا يلزم، الى مرحلة البلد الذي لا يستحق الديْن بل الإحسان ومكرمة اخوان في الدين والعروبة. كان الدَيْن معاملة تجارية بين أنداد، صار نوعاً من الشفقة أو التصدّق على أخ صغير. كان الفساد متفشياً، وكان جزءاً، كما هي العادة في أي بلد آخر، من عيش الطبقة السياسية وزبانيتها. صار الفساد هو نمط العيش في لبنان مع سرقة الودائع، أو ما يسمى مصادرتها.
الأمر لا يتعلّق بجزئيات الحياة، وحتى لو تعلّق بضروريات الحياة، صار الأمر يتعلّق بمجمل الحياة. حياة لا تطاق. الذين ركبوا زوارق الموت لم يكونوا معدمين مادياً (كل منهم دفع بضعة آلاف من الدولارات)، بل معدومي الكرامة. يناطحون الجدران التي تعترض طرقاً مسدودة. لا أحد يراهم ليس فقط وهم أحياء بل حتى بعد موتهم، بدليل أن لقاءً مذهبياً عُقد في اليومين الماضيين لم يأتِ على ذكر هؤلاء الفقراء ولا قرأ الفاتحة عن أرواح من إبتلعهم البحر او ما زالوا يتنفسون.
قوارب الموت تقل من “يشترون الموت”. وقد قالها لإحدى محطات البث أحد الذين هاجروا ونجا. لا يشتري الموت من يسعى الى حياة أفضل، بل فاقد معنى الحياة في بلده. فيهيم في المجهول
في الوقت الذي نحتفل فيه بفرقة “الميّاس”، وغيرها من المبدعين في مجالات أخرى، صرنا مدمنين على أنماط الذل، ليس فقط طوابير الذل من أجل ضروريات الحياة لانتشال ربطة خبز من فم التنين، بل ذل الحياة ذاتها وتفاهة العيش في نظام دعارة سياسية (ومالية) ليس فيه شيء يربط بين الطبقة الحاكمة اللبنانية. صار معظم الشعب اللبناني منبوذاً لا بسبب الفقر المدقع وحده، ولا بسبب هبوط المنزلة الاجتماعية من طبقة وسطى الى بروليتاريا رثة، الى جحافل من معدمي العيش والكرامة لا مكان لهم في لبنان؛ حتى النظام الطائفي الداعر نبذهم. صنّف الدعارة كما شِئت. لكن سوق الدعارة واسع جداً في الفضاء اللبناني. هي ليست الدعارة الجنسية وحدها، بل دعارة العيش في أعماق النبذ، والتفاهة، والكذب، والسمسرة الرخيصة، وأنياب قروش البر (لا البحر). سوف تكثر قوارب الموت من كل الشواطئ اللبنانية. ليس طمعاً بحياة أفضل في الجنات الموهومة، بل هرباً أو خلاصاً من حياة تخنق الأنفاس. ليس فيها الاستغلال الرأسمالي وحسب، بل الاستهانة بالوجود البشري. في عقول الناس وأرواحهم “كلن يعني كلن”. شعار يبني كل الحياة في لبنان الذي ينبذ النظام فيه أبناءه الى حيث تستوي الحياة بالموت. قال جرير:
قد خفت يا ابن التي ماتت منافقة/ من خبث برزة أن لا ينزل المطر
(برزة هي أم المهجو التي بلغ خبثها الكوني ما يمنع المطر والخير).
لأيام كنا نرى أرتال الدراجات تقل العمال الى منطقة صناعية في جنوبي المدينة، قبل أن تباع المعامل وتتحوّل أهم المناطق الصناعية في لبنان الى “مدن تنك”. طرابلس الآن مجموعة أبنية مترهلة فاقدة العيش الكريم. شغلها الأساسي تصدير قوارب الموت؛ من موت الى موت. ليس الزومبي كائناً وهمياً؛ هو كذلك الا في لبنان، خاصة في شماله.
قوارب الموت تقل من “يشترون الموت”. وقد قالها لإحدى محطات البث أحد الذين هاجروا ونجا. لا يشتري الموت من يسعى الى حياة أفضل، بل فاقد معنى الحياة في بلده. فيهيم في المجهول. مجهول قال فيه الشاعر خليل مطران:
إذا رأيت الموج يسفل بعضه/ ألفيت تاليه طغى وتعالى
الذين ركبوا قوارب الموت يعرفون البحر، لكنهم طفشوا من جحيم الى جحيم.
ملاحظة: تفاصيل تحضيرات قوارب الموت معروفة وليست سرية. والسر متى تجاوز الإثنين شاع. هو “السيستم” (النظام) ينبذ أبناءه.