لبنان وتركيا.. شراكة استراتيجية في قلب التحولات الإقليمية

في 18 كانون الأول/ديسمبر 2024، شهدت العاصمة التركية أنقرة لقاءً لافتاً للانتباه بمضمونه وتوقيته بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان نجيب ميقاتي. هذا اللقاء الذي اتسم بالتركيز على قضايا الأمن والاستقرار الإقليمي، يعكس عمق العلاقة بين البلدين والرجلين، ويرسم ملامح شراكة استراتيجية تنمو وسط التحديات السياسية والأمنية التي تواجه منطقة الشرق الأوسط.

في تصريحاته خلال اللقاء، أكد أردوغان دعم تركيا الثابت للبنان في جميع المجالات، مُشددًا على أن استقرار لبنان وسوريا وفلسطين هو جزءٌ لا يتجزأ من استقرار المنطقة ككل. هذا الموقف التركي يأتي في توقيت حسّاس، حيث يُعاني لبنان أزمة إقتصادية حادة في ظل التوترات السياسية والأمنية، لا سيما الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة التي تطال الأراضي اللبنانية، برغم مضي ثلاثة أسابيع على اعلان وقف النار بين لبنان وإسرائيل.

ويأتي اللقاء على مسافة عشرة أيام من سقوط نظام حزب البعث في سوريا، حيث شكّلت تركيا رافعة أساسية لقوى ومجموعات المعارضة السورية التي تمكنت من الإمساك بالسلطة في وقت قياسي إثر سقوط مدينة حلب أولاً ومن ثم توالي سقوط باقي المدن والمحافظات السورية، وصولاً إلى رحيل بشار الأسد إلى موسكو.

وإذا كانت تركيا قد أدارت ظهرها لمحاولات دخولها التي تعثّرت مرارًا إلى الإتحاد الأوروبي، فإن المشهد السوري يشي بأن القيادة التركية الحالية تسعى إلى توسيع بيكار نفوذها الإقليمي في منطقة المشرق العربي، وهو الأمر الذي يطرح علامات استفهام حول إمكان تمدد النفوذ التركي نحو لبنان، ولا سيما منطقة الشمال التي تتميز عن غيرها بوجود آلاف العائلات اللبنانية من أصول تركية.

العلاقات التركية اللبنانية

وتمتد العلاقات بين تركيا ولبنان عبر تاريخ طويل يعود إلى حقبة الدولة العثمانية، حيث كان لبنان جزءًا من الإمبراطورية العثمانية. هذا الإرث التاريخي والثقافي يُعزّز الروابط الاجتماعية بين الشعبين، حيث يُقدّر عدد ذوي الأصول التركية الذين يعيشون في لبنان بحوالي 50 ألف شخص، فيما يُعد التركمان اللبنانيون جزءًا من الهوية التركية الثقافية، إلى جانب إرث العمارة العثمانية.

وعلى الرغم من عدم وجود حدود مباشرة بين البلدين، إلا أن تركيا تعتبر لبنان دولة جوار جيوسياسية، حيث يقع لبنان في قلب منطقة الشرق الأوسط المضطربة التي تشهد تحولات استراتيجية كبرى، ولا سيما في ظل الأزمات التي يشهدها الجواران السوري والفلسطيني. تركيا، التي أصبحت لاعبًا رئيسيًا في هذه التحولات، ترى في استقرار سوريا ولبنان ركيزة أساسية لاستقرار المنطقة ككل.

شراكة استراتيجية

في ما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية بين البلدين، فإن لبنان يُعتبر شريكًا تجاريًا مهمًا لتركيا في منطقة شرق المتوسط. التبادل التجاري بين البلدين يغطي العديد من القطاعات مثل الصناعات الغذائية، البناء، والزراعة، بالإضافة إلى أن النقل البحري بين الموانئ اللبنانية والتركية يسهم في تعزيز التجارة الثنائية.

وعلى الرغم من الأزمات السياسية والاقتصادية التي يعاني منها لبنان، إلا أن تركيا تُمثل شريكًا استراتيجيًا طبيعيًا للبنان في جهود إعادة تأهيل اقتصاده وتنمية بنيته التحتية.
وتظهر البيانات الإقتصادية أن التعاون بين الشركات التركية واللبنانية يُحقّق نموًا مستدامًا في مجالات مثل البناء والطاقة المتجددة وتكنولوجيا المعلومات. تركيا، التي تسعى إلى تعزيز حضورها في الأسواق العربية، تعتبر لبنان بوابة مهمة للوصول إلى أسواق أخرى في المنطقة.

نفوذ تركيا الإقليمي

في ما يتعلق بالقضايا الإقليمية، تتداخل العلاقات التركية اللبنانية مع التحولات الكبيرة التي تشهدها المنطقة. ففيما يخص الأزمة السورية، تُعدُ تركيا الفاعل الأساسي الأول في المشهد السوري الجديد، ولذلك، يُعوّل لبنان على دور تركي (وقطري) في إعادة صياغة العلاقات اللبنانية السورية، على الصعد السياسية والإقتصادية والأمنية، مع تركيز لبنان على نقاط تتقدم على ما عداها؛ وأولها التشارك مع تركيا في ملف النازحين السوريين الذي يُشكّل عبئًا على كلا البلدين. ويطمح ميقاتي لدور تركي في عملية ترسيم الحدود البرية أولًا ومن ثم البحرية بين لبنان وسوريا، وذلك ربطاً بملف استخراج الغاز من الحوض الشرقي المتوسطي الذي يتشارك فيه لبنان مع عدد من الدول وبينها سوريا من جهة الشمال.

كما يطمح لبنان في أن يكون شريكًا، كما تركيا، في مشروع إعادة الإعمار في سوريا في المرحلة المقبلة. ولمش الرئيس ميقاتي تأكيدًا تركياً على سيادة سوريا ووحدة أراضيها، وبالتالي رفض أي محاولة لتقسيمها أو دعم أي تنظيمات انفصالية على أراضيها. وهذا الموقف يتبناه لبنان لأن من شأنه أن ينعكس بشكل مباشر على وحدة لبنان واستقراره وسيادته.

أما في ما يخص القضية الفلسطينية، فقد بذلت تركيا جهودًا كبيرة لدعم حقوق الشعب الفلسطيني ووقف الحرب الإسرائيلية المستمرة منذ 14 شهرًا ضد قطاع غزة والضفة الغربية. هذا الموقف يتوافق مع الموقف اللبناني الذي يرفض أي تعدٍ على سيادة لبنان وحقوق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.

من التحديات إلى الفرص

لبنان بحاجة إلى محيطه العربي والحيوي وتركيا تعد في محيط لبنان الحيوي، ولبنان لطالما كان يُطالب بالدعم الدولي في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية التي تواجهه. ومع استمرار التصعيد في بعض الأزمات الإقليمية، تُمثل تركيا شريكًا استراتيجيًا لا غنى عنه للبنان، نظرًا لدورها البارز في المحافل الدولية وعلاقاتها الواسعة مع الدول العربية والإسلامية والغربية، حيث كان قد أشار إلى ذلك الرئيس ميقاتي في أنقرة.

إقرأ على موقع 180  إسرائيل "تبرىء" حزب الله من "كاتيوشا المخيمات".. ولكن!

ويُمكن لتركيا أن تلعب دور الوسيط في القضايا اللبنانية والإقليمية، من خلال الضغط على المستوى الدولي لتعزيز استقرار لبنان الداخلي ومساعدته في تجاوز أزماته الاقتصادية.

على المستوى الاقتصادي، تُمثل العلاقات بين البلدين فرصة واعدة للنمو المستدام. فمن خلال تعزيز التعاون في قطاعات جديدة مثل الطاقة المتجددة، السياحة، وتكنولوجيا المعلومات، يمكن أن تُفتح آفاق جديدة للتعاون بين البلدين، مما يُساهم في تعزيز التنمية المستدامة للبنان. كما أن تركيا قد تقدم الدعم الفني والمالي لمساعدة لبنان في إعادة بناء بنيته التحتية وتحقيق الاستقرار المالي والنقدي.

ختامًا؛ تُظهر العلاقات التركية اللبنانية تطورًا مستمرًا في إطار شراكة استراتيجية تهدف إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي والدولي. هذا التعاون لا يقتصر على الجوانب السياسية أو الاقتصادية، بل يتعداها ليشمل أبعادًا ثقافية واجتماعية تربط الشعبين بأواصر تاريخية عميقة.

وفي ظل التحولات الإقليمية الكبرى، لا شك أن أنقرة ستكون عنصرًا رئيسيًا في مستقبل لبنان، وأن الشراكة بين البلدين إلى جانب استقرار سوريا ستظل أساسًا لتحديد ملامح الاستقرار الإقليمي في منطقة شرق المتوسط.

Print Friendly, PDF & Email
كولشان يوسف صغلام

باحثة اكاديمية

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  الثنائية.. حتى لا يتكرر مشهد تاريخي في منطقتنا