هناك تناقض أساسي بين الرأسمالية من جهة، وبين البيئة ومواردها من جهة أخرى. البيئة هي الطبيعة أو الكرة الأرضية بما فيها الإنسان. فهل البيئة معرضة للاستنزاف، وبالتالي الدمار في وقت ما من الزمن القريب أو البعيد؟ ويكون ذلك مهدداً للحياة البشرية. فالحياة البشرية مرتبطة بسلامة البيئة ولا حياة بدونها.
نظريات التنمية معنية بإدارة الموارد الطبيعية والبشرية. ربما كان الاهتمام ببناء الجنس البشري نابعاً من ميل نفسي “أبوكاليبتي” (عن يوم القيامة). والأرجح أن الرأسمالية غير معنية بالبيئة والبشر إلا كأدوات استغلال واستهلاك. في الثقافة الدينية الله هو الذي يخلق ويميت. لذلك يميل المتدينون الى الاتجاه اليميني لصالح الرأسمالية. إذ يميلون الى موقف متراخٍ حيال الطبيعة والكون، مما يريح الرأسمالية الممعنة في استغلال الموارد على حساب الطبيعة والبشر، وإلقاء التبعة (أو الملامة) على الله يفيدها في تنصلها من كل مسؤولياتها الإنسانية.
في ثلاثية الله والرأسمالية والبيئة، يتحالف أصحاب الإيمان بالله مع الرأسمالية، ضد البيئة بما فيها المصير الإنساني. إذ أن المصير الإنساني يقرره الله في السماء، لا ما يجري على الأرض. ما دام الأمر كذلك، فالرأسمالية لا تتحمّل مسؤولية تدمير البيئة وتعطيل إمكانية الحياة البشرية. في ذلك كلفة لا تريدها. ربما اهتمّ أصحاب الدين ببعض المسائل الدينية هنا وهناك لأسباب تتعلّق بالسياسة والموقف من السلطة، لكن مسألة الوجود البشري خارج اهتمامهم، وإلا اعتبروا أن لديهم مشكلة مع الخالق الذي هو وحده يمسك بالقرار حول هذا الوجود.
أكثر المناطق تعرضاً للجفاف هي منطقتنا العربية الممتدة من المحيط الهندي الى الأطلسي، وإن كانت بعض بقعها الصحراوية قد بدأت تشهد تجمعات مائية، كما في الربع الخالي. لكن التصحّر مشكلة ليست جديدة في منطقتنا. فالصحراء تزحف نحو السواحل مما يهدّد بتقلّص الأرض الزراعية، وما يجر إليه ذلك من مجاعة
نشهد في هذه الأيام فوضى مناخية، إذ تتغيّر الفصول، وتتكاثر السيول في غير أوانها وأماكنها المعتادة والمتوقعة. تتحوّل شوارع المدن الى أنهار. في مناطق لم تعرف هذه الظاهرة من قبل، تذوب ثلوج أعالي الجبال، فتنصب الى مناطق أدنى كسيول. تتلاشى جبال الجليد بسبب ارتفاع الحرارة أو ما يسمى الاحتباس الحراري. يذوب الجليد في المناطق القطبية، مما يؤدي الى ارتفاع مستوى البحار والمحيطات، الأمر الذي يُهدّد الكثير من المناطق الوطيئة والمدن الساحلية. تصاب مناطق بالجفاف بحيث تتدنى كميات المياه الجارية في الأنهار التي كانت صالحة للملاحة ولم تعد كذلك. المعروف أن أكثر المناطق تعرضاً للجفاف هي منطقتنا العربية الممتدة من المحيط الهندي الى الأطلسي، وإن كانت بعض بقعها الصحراوية قد بدأت تشهد تجمعات مائية، كما في الربع الخالي. لكن التصحّر مشكلة ليست جديدة في منطقتنا. فالصحراء تزحف نحو السواحل مما يهدّد ـ باستمرار ومنذ زمن ـ بتقلّص الأرض الزراعية، وما يجر إليه ذلك من مجاعة، وعلى الأقل الاعتماد على بلاد الغير للتزوّد بالمواد الغذائية، من أجل إطعام سكان مناطق كانت هي ذاتها تزوّد الامبراطوريات القديمة بالحبوب والماشية.
الفوضى المناخية هي من صنع الإنسان (الرأسمالية)، إذ أن الانبعاثات الكاربونية تؤثر بالغلاف الجوي المحيط بالأرض، والذي لم يعد قادراً على الانتظام بفعل تسرّب اشعاعات لم تعتد الأرض عليها، مما يتسبب بالاحتباس الحراري، الذي يُشكل خطراً ليس فقط على البيئة وتوازنها، بل على الوجود البشري وبقائه. الفوضى المناخية وما تسببه من فيضانات؛ موجات جفاف؛ عواصف؛ مجاعات؛ وأسباب تقود الى الحرب (إذ أن ندرة الموارد ونضوبها يستدعي التنافس من أجلها والتقاتل عليها)، إضافة الى الفقر والإفقار (تعميم الفقر)، وإبقاء البشري (معظم البشر) على حافة الشبع أو الجوع.
المهم أن يبقى الإنسان على حافة الهاوية. وهذه تعني حافة الاستسلام. هذا المعذّب الذي تلاحقه الخطيئة منذ اليوم الأوّل لوجوده ولا يستطيع أن ينهي حياته طوعاً، لأن ذلك كفر، وعليه أن يعيش وسيف الرأسمالية مصلتاً على رقبته. عليه أن يخضع؛ والفرق ليس كبيراً بين العبودية لخالقه والانصياع لنظام الكون الذي دمرت الرأسمالية توازنه وجعلت العيش فيه مسألة نضال من أجل البقاء. تفتقت عبقرية أباطرة الرأسمالية، الذين تعد ثروة كل واحد منهم بمئات المليارات من الدولارات، عن اختراع غريب لما يوحي بلا محدودية البيئة أو الطبيعة أو ما هو على الأرض. اقتحم بعضهم الفضاء الكوني، أي خارج محيط الارض. فأطلقوا شركات سفر الى الفضاء، ومحطات للعيش فيها، وأوهموا المستثمرين أن هناك “موارد طبيعية” في الكواكب الأخرى. وهذه يمكن الاستفادة منها حتى لو نضبت موارد الأرض. بالطبع شكّلوا شركات لهذا الغرض وسمّوه “غزو الفضاء”. بالطبع أيضاً أفلست هذه الشركات. كلما أفلست موجة من الشركات، تأسست أخرى. المحاولات تتكرر. كل ذلك للإيهام بأن الموارد غير محدودة، ولا لزوم للأسى أو التآسي بشأن مصير الأرض، المنتشر فيها سلاح الدمار الشامل. والآن يجري التهديد باستخدام السلاح النووي في أوكرانيا. وكأن المقصود بالمفاوضات النووية أن لا تنتهي كي يبقى الشعور بالفناء متعمقاً في الوعي البشري.
المشكلة ليست في كون الموارد الطبيعية المتاحة كافية أو غير كافية. بل هي في عدم توازن الاستهلاك الرأسمالي الفاقد التوازن والذي يضع هدفاً له مهما كانت التكاليف لا حاجات البشر، والتي يجب أن تتلاءم مع معطيات الطبيعة، لو كان هناك حد أدنى من التوازن بين الحاجات الإنسانية والطبيعة، وبين أشياء الطبيعة ذاتها. لكن دافع الربح بغض النظر عن مصلحة البشر وتوازن الطبيعة ذو أولوية كاملة، وهو الذي يهدد الطبيعة والإنسان. لا تقتصر التهديدات حول طريقة استخدام الرأسمالية للطبيعة والتوازن فيها، ولا استخدامها لمصلحة الإنسان العامل ولبقائه. تعمل الرأسمالية على تدمير الأرض، وتبحث عن مخرج وهمي. بعد كل مرة تحاول مرة أخرى استقدام مواد أولويّة من الكواكب الأخرى. فكأنها تعلل للبشري بأن نصيبه بل حظه ليس على الأرض بل في السماء، كما كانت الكنيسة تبيع صكوك الغفران في السماء الجنة.
يزدهر النظام الرأسمالي في العالم بالأوهام. يعيش على الأوهام. ما هو غير وهمي في هذا النظام يقبض عليه قلة من أصحاب الرأسمال والمال. بقية البشر يعيشون حياة فقر أو على حافة الفقر أو هم مهددون دائماً بالفقر. والآن تتسبب فوضى المناخ بالجوع وفقدان كل ضروريات الحياة؛ الملبس؛ المأوى، وحتى الشرف (لا ندري كيف تذهب النساء الى بيت الخلاء في مدينة يبلغ عدد سكانها حوالي عشرين مليون نسمة، ليس في بيوتها منافع المراحيض، ولا حتى تتوفر فيها إمكانية مياه الشرب). يستطيع إنسان في النظام الرأسمالي أن يصير غنياً أو غير فقير. لكن الواقع غير ذلك. ما زالت “حقوق الإنسان” قاصرة عن توفير الحقوق للناس. ما تعطيك اياه الرأسمالية في الوهم تسلبه منك في الواقع. وهي على أتم الاستعداد، كما في لبنان، أن تسلب منك ما لديك، وتدعي التعاطف معك لاستعادة أموال المودعين، كما تقول إعلانات المصارف، وكل ذلك بدعم، وربما بتوجيه، من النظام السياسي. وهو على كل حال مسؤول عما يجري في البلد، مباشرة أو غير مباشرة.
ما لا تقر به الرأسمالية أن موارد الأرض محدودة، أو على الأقل ما هو منها معروف هو محدود، وأن تدمير البيئة أو الفوضى المناخية صنع رأسمالي. ووسائل الإعلام والتواصل تقول أنه صنع بشري. فكأن المصانع والمؤسسات التي تتصاعد منها الدواخين لبث الانبعاثات هي ملك للبشر لا الرأسمالية.
ما تعطيك اياه الرأسمالية في الوهم تسلبه منك في الواقع. وهي على أتم الاستعداد، كما في لبنان، أن تسلب منك ما لديك، وتدعي التعاطف معك لاستعادة أموال المودعين، كما تقول إعلانات المصارف، وكل ذلك بدعم، وربما بتوجيه، من النظام السياسي
تدمير البيئة على الأرض هو مشروع رأسمالي. وما يقال عن أن الفوضى المناخية صنع بشري هو للإيهام بعدم حصر المسؤولية بالرأسمالية، بالأحرى النظام الذي يتحكم بالكرة الأرضية. الضحية دائماً هي الجنس البشري.
الخلاص من البشرية، أو على الأقل من جزء منها، هو المشروع الأساس للرأسمالية، عن وعي وسابق تصميم. بالطبع تبقى الحاجة للخدم والكتبة والمحاسبين. لكن المسنين، وكل من لا يساهم، أو لا يقدر على المساهمة، في عمل مفيد، ما عاد لازماً. لا ترى الرأسمالية في البشر إلا منتجين للقيمة، التي يتزايد الاعتماد على الأتمتة وأجهزة الروبوت من أجلها، للاستغناء عنهم. وسياسات الإفقار بحد ذاتها وسيلة لتيئيس البشر من حياتهم ودفعهم لشراء الموت.
ربما لم تكن الرأسمالية حين نشأتها قبل خمسة قرون مشروعاً واعياً، بل كانت “سيستاماً” ولو تدريجياً من رحم النظام الاجتماعي السابق. مع مرور القرون وتقدم التكنولوجيا وتراكم الثروات، أصيبت الرأسمالية بداء الكبرياء حتى على البشر أنفسهم. ما كان قاعدة للنمو، أي البشر، أصبحوا لزوم ما لا يلزم. الرأسمال المالي يجني من مضاربات البورصة أكثر بكثير من أرباح الشركات الصناعية والخدماتية. الرأسمال المالي “سيستام” قائم بذاته ولذاته. الرأسمال ما قبل المالي كان محتاجاً للبشر، وإن كان الأمر مع استغلال.
الآن يقود التكبر بعد تدمير الأرض الى اعتبار الفضاء الكوني هو المجال الذي يجب على الإنسان التطلّع إليه. صناعة الأوهام تدر الكثير من الثروات. واقع الأرض يدر كثيراً من الموت. الله يستر من حرب أوكرانيا ونتائجها التي ربما ستكون نووية.