جدير بالذكر أن محاولات العراق امتلاك أسلحة متطوّرة توقّفت بعد حرب قوات التحالف الدولي ضدّه (17 كانون الثاني/يناير 1991) والتي سُمّيت حينها “عاصفة الصحراء” إثر غزو قواته الكويت في 2 آب/أغسطس 1990 وفرض عقوبات دولية عليه. وكان مسلسل العقوبات قد بدأ ضمن الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بعد رفضه الانسحاب من الكويت بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 661 في 6 آب/أغسطس 1990 وتُوّج بالقرار رقم 687 في 3 نيسان/أبريل 1991 الذي تضمّن شروطًا والتزامات ثقيلة تتعلّق بمستقبله كدولة وشعب، الأمر الذي ترك تأثيره السلبي الخطير على تنميته وتطوّره، لا سيّما باستمرار الحصار الدولي طيلة ما يزيد عن 12 عامًا تمهيدًا لغزوه واحتلاله العام 2003.
ولم تعبأ الولايات المتحدة وبريطانيا ومعسكر الحلفاء لغزو العراق باحتجاجات عشرات العواصم ومئات المدن الأوروبية وتحذيرات منظمات دولية حقوقية وإنسانية من الحرب ومخاطرها وامتداداتها، ناهيك عن افتقادها المسوّغ القانوني الدولي ومخالفتها ميثاق الأمم المتحدة وما يسمّى بالشرعية الدولية. وقد أدّت الحرب التي شنّتها واشنطن ولندن ليلة 19 – 20 آذار/مارس 2003 إلى تدمير بنيته التحتيّة وهياكله الارتكازية ومرافقه الحيويّة وإعادته حسب جيمس بيكر إلى “العصر الحجري”، مثلما سبّبت في إزهاق أرواح مئات الآلاف من البشر، فضلًا عن نزوح ولجوء ملايين العراقيين بسبب الانفجار الطائفي الذي غذّته إدارة بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق، والذي أسس “مجلس الحكم الانتقالي” على أساس التقسيم الطائفي – الإثني وفقًا لنظام محاصصة قائم على الزبائنية السياسية والحصول على المغانم، وما يزال هذا النظام مستمرًا.
اليوم وبعد 20 عامًا تكشف لنا وثائق مجلس الوزراء البريطاني التي نشرتها اﻟ BBC عن فريّة تهديد العراق للسلم في الشرق الأوسط والعالم، خصوصًا وأن المنطقة أصبحت بعد الاحتلال أكثر اضطرابًا وعنفًا وإرهابًا
واعترفت إدارة الرئيس بوش بعد عامين من احتلالها العراق وتمشيطه طولًا وعرضًا أنه لا دليل على وجود أسلحة دمار شامل، بما فيها غاز الأنثراكس الذي أُثيرت حوله ضجّة صاخبة، وانبرت بعض الأقلام “العراقية” الممالئة للغرب لتهويل الفكرة وخلق الرعب بشأنها، بل أطلقت العنان لمخيّلاتها المريضة لتزعم أن العراق بإمكانه خلال 45 دقيقة تدمير مدن أو حتى دول بكاملها؛ إلى غير ذلك مما كانت تروّج له أساليب الدعاية السوداء والحرب النفسية ومفردات القوّة الناعمة التي تغلغلت للتأثير على العقول وعلى قرارات بعض الدول والحكومات بالانسجام مع مصالحها.
وكانت لجنة تشيلكوت (تموز/يوليو 2016) تناولت في تقرير مفصّل الدور البريطاني، متحدّثة عن المعلومات الاستخباراتية “المفبركة” و”الكاذبة”، إضافة إلى إدانة الأساس القانوني الذي استندت إليه في شنّ الحرب، لاسيّما برفض الأمم المتحدة تفويض واشنطن وحلفائها بالقرار 1441 الصادر في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2002. علمًا بأن بلير
وإن كان قد دافع عن الغزو في حينها، لكنه بعد الأهوال التي سبّبتها وافتضاح حجم التضليل فيها، عبّر عن شعوره “بقدر من الأسى والندم والاعتذار” مشيرًا إلى الأخطاء التي ارتُكبت في الإعداد لها، “تسبّبت في حدوث شرخ عميق في المجتمع البريطاني”.
وبرّرت إدارة بلير أنه لولا “سياسة الاحتواء التي اتبعتها مع واشنطن” لكان من المرجّح “امتلاك العراق صاروخًا بعيد المدى قادرًا على الوصول إلى بريطانيا وأوروبا، وكذلك رؤوسًا كيماوية وبيولوجية ونووية”. وهو ما حاولت إقناع باريس به للانضمام إلى الحملة ضدّ العراق، واقترحت مثل هذا الأمر على عدد من الدول العربية لمساندتها لتشكيل “إجماع دولي”. وكان كولن باول وزير الخارجية الأمريكي قد روّج مثل هذه المزاعم أيضًا أمام مجلس الأمن الدولي في 5 شباط/فبراير 2003، وعرض أنبوبًا اعتبره دليلًا لا يمكن دحضه لإقناع المجتمع الدولي على امتلاك العراق أسلحة بيولوجية.
اليوم وبعد 20 عامًا تكشف لنا وثائق مجلس الوزراء البريطاني التي نشرتها اﻟ BBC عن فريّة تهديد العراق للسلم في الشرق الأوسط والعالم، خصوصًا وأن المنطقة أصبحت بعد الاحتلال أكثر اضطرابًا وعنفًا وإرهابًا، وأن الحصار الدولي كان تشريعًا للقسوة عن سابق إصرار، وهو جريمة دولية ما تزال تأثيراتها ماثلة للعيان باستمرار المأساة العراقية وامتداداتها عربيًا، الأمر الذي يضع مسؤوليات على مرتكبيها، ليس للاعتذار فحسب، بل للتعويض أيضًا عمّا لحق بالعراق من أضرار مادية ومعنوية طالت جيلين عراقيين.