وراء الأكمة ما وراءها، وهذا المنع في صيدا، مع استفحاله، يُهدّد إمكانية العيش سوية. فالمسألة لا تتعلّق بالحرية وحسب، وهذه أثمن ما لدينا، ويمكن أن لا تبقى متاحة، لكنها تتعلّق باتساع الشرخ الثقافي بين الجماعات من اللبنانيين، بحيث ينطرح علينا بإلحاح السؤال “هل نستطيع العيش سوية”. والتعبير عنوان لكتاب فرنسي مهم خاصة وأنه طرح في فرنسا، حيث التلاحم الثقافي الذي ربما لا يضاهي بلداناً أخرى من العالم.
في الدين العميق، وهو دين أكثر الناس، لم يعد مهماً سوى العلاقة العمودية، علاقة الإيمان، بين الفرد والله؛ ما تبقى من علاقات أفقية بين الناس قد تولتها الدولة. لباس الفرد يدخل في هذا الباب، أي باب المعاملات. أما باب العبادات، ففي الدين العميق متروك أمرها للفرد أن يمارسها. ما ميّز الدين العميق عبر العصور أن “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” كان يتولاه المحتسب. وقد أصبح من الشؤون التي تتعاطاها الدولة الحديثة. ها قد ولجناها من بابها الواسع، سواء أردنا أو رفضنا؛ هي ما يملي الثقافة العالمية، ونحن جزء من هذا العالم بمآسيه، وجرائم سادته المرفوضة والمنكرة.
في صيدا، ما اهتز الشيخ الجليل للجريمة الأخلاقية المتمثلة بسرقة مدخرات الناس المودعة في المصارف، بما يؤدي الى تفاقم الفقر، بحيث هبط معظم اللبنانيين الى ما دون خط الفقر، كما اهتزّ هو نفسه للباس البحر الذي اعتاد عليه الناس في كل المناطق اللبنانية. ومن لم يتناسب الأمر مع مزاجه، يترك الأمر لخيارات الناس دون التدخل فيها.
الدستور يعطي الحق لكل لبناني بالتمتّع بأي جزء من الجغرافيا اللبنانية، شرط أن لا يتعدى على حرية الغير أو ملكه. والحالة هنا ملك عام، والذين تعدوا ليسوا السابحين بل هم الشيخ الجليل وأصحابه. وإحجام النخب عن التعليق على الأمر يُعتبر وكأنه موافقة سكوتية.
يعلم الجميع أن هناك مخالفات أخرى فادحة، وصغرى يمكن أن تتطوّر الى فادحة، ومنها ما يتعلّق بالقضاء والدولة الموازية والبيروقراطية المتغيبة عن عملها، الى غير ذلك، وهي جميعها أوجه مختلفة لتهالك الدولة وتحولها الى دولة فاشلة، مع ما يمكن أن يجر إليه ذلك من كوارث محلية، ربما أدت الى إعلان لبنان دولة فاشلة بحسب ما يسمى القانون الدولي.
في صيدا، ما اهتز الشيخ الجليل للجريمة الأخلاقية المتمثلة بسرقة مدخرات الناس المودعة في المصارف، بما يؤدي الى تفاقم الفقر، بحيث هبط معظم اللبنانيين الى ما دون خط الفقر، كما اهتزّ هو نفسه للباس البحر الذي اعتاد عليه الناس في كل المناطق اللبنانية. ومن لم يتناسب الأمر مع مزاجه، يترك الأمر لخيارات الناس دون التدخل فيها
الدستور يضمن حرية الملبس وغير ذلك من المأكل والمأوى والرأي والبوح به. ونستمد منه قواعد السلوك والحشمة التي لا يقررها فرد مهما علا شأنه، ولا جماعة مهما كان حجم توسعها. والقانون تتولاه الدولة. حتى في الدولة الدينية، وهي غير الحديثة، يتولى العقاب الإمام، بالأحرى الحاكم، بالأحرى الدولة، لا الأفراد مهما علا شأنهم وجلالهم. طول اللحية والثوب الأبيض لا يخولان صاحبهما تطبيق قانون سنّه هو، ولا مرجع له في قوانين الدولة. ما نعانيه في لبنان هو نقص تطبيق القوانين، حتى على يد القضاء، وأجهزة الدولة الأمنية وغير الأمنية. ولا نحتاج الى قوانين إضافية، مع عقوبات يسنها أفراد لا علاقة لهم بالأمر.
أما في السياسة، فإن الأمر قد يؤدي الى تهميش المجتمع على يد جماعة، هي في الأساس هامشية. الدين العميق هو دين أكثرية الناس، والأساس فيه هو ترك الناس وشأنهم فيما لا يخالف القانون، وفيما لا يُعتبر لدى الأكثرية خدشاً بالأخلاق؛ وفي كل المناطق اللبنانية تقريباً أمر السباحة لا يعتبر كذلك. ما في الأمر هو طغيان أقلية من الناس على الأكثرية في طائفتهم أو مدينتهم. الطغيان الاجتماعي أشد ودهى من الطغيان السياسي، أو يحوّل الأكثرية الى جماعة خائفة بسبب جرم لم ترتكبه، وهو ليس إلا جرماً في أذهان الأقلية المتسلطة. فيتحوّل الجمهور الأكثري الى مجتمع مهمّش، ليس بيده من الأمر إلا الاستسلام والطاعة، وتكييف السلوك حسب إرادة الأقلية.
في الحديث الشريف: “علّموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل”. تطوّر لباس السباحة في لبنان تبعاً لتطوره في العالم. فهل نريد أن نكون جزءاً من هذا العالم؟ مع الحفاظ على أهمية الخيار الشخصي، وهناك من لا يستسيغ ذلك، فهل يحق له فرض مزاجه على الآخرين؟
الاحتشام في اللباس كما في كل شيء آخر أمر ضروري. لكن للسباحة تقنياتها، وهذه تطورت مثل كل الأشياء الأخرى. السباحة رياضة كما هي استمتاع. وكل رياضة متعة؛ والاعتراض يجب أن يكون على تحويل المتعة الى سلعة. والمعلوم أن الرأسمالية تسعى الى تحويل كل شيء الى سلعة في سبيل الربح، بما في ذلك الحياة البشرية.
الذين اعتدوا على السابحين فعلوا ذلك عن غير حق. من حق كل بشري أن يستمتع. وإذا كان ذلك لا يتنافى مع الجماليات المعترف بها في كل العالم، فلا ضير في ذلك.