قد تكون انتخابات عام 1970 التي أوصلت سليمان فرنجية إلى الرئاسة اللبنانية الأولى، أكثر العمليات الإنتخابية الرئاسية شبهاً وقرباً إلى الإستحقاق الرئاسي الحالي، فآنذاك كان ثمة محوران، “النهج الشهابي” وما يمثله، و”الحلف الثلاثي” المتمثل بأحزاب “االأحرار” و”الكتائب” و”الكتلة الوطنية” وما يعنيه هذا الحلف من بيئة طائفية محددة.
ذاك الموسم الإنتخابي، كان ثقيل الوطأة على لبنان إلى حد الإختناق كما الموسم الراهن بتمامه وكماله، ففي جانب من الوطأة، كان مشروع الإطاحة بالشهابية قد ارتسمت معالمه منذ الإنتخابات النيابية عام 1968، وكانت تداعيات “اتفاق القاهرة” عام 1969 بين السلطات اللبنانية وفصائل المقاومة الفلسطينية قد أفرزت مجتمعين سياسيين لبنانيين متناقضين، واحد مع حرية العمل الفدائي وآخر يعانده، فيما التأجج والإضطراب الإقليميان الناتجان عن هزيمة الخامس من حزيران/يونيو 1967 شكلا العامل الأكثر سخونة في المشهد العام الذي اختصره سؤال واحد: ما موقع لبنان من الوقائع الجارية في المنطقة وحيال حرب عربية مع إسرائيل هي أقرب من حبل الوريد؟
هذه الخلاصة السياسية للأوضاع العامة، كان يرافقها مجلس نواب منقسم بحدة وشدة على نفسه، ومن دون أن يغيب عنه محوران متناقضان، أنصار الرئيس فؤاد شهاب المعروفون بـ”النهج” وأنصار “الحلف” العائدون للأحزاب الثلاثة المذكورة سابقاً، وسيضاف إليهما قبيل الإنتخابات الرئاسية “كتلة الوسط” ومن رموزها الرئيسان كامل الأسعد وصائب سلام والنائب (قبل أن يغدو رئيساً) سليمان فرنجية.
عن الصورة الإنقسامية والمحورية الشديدة التي عاشها لبنان حينذاك، وقبل يوم واحد من الإنتخابات الرئاسية كتب قطب الصحافة اللبنانية والعربية سعيد فريحة افتتاحية (16 ـ 8 ـ1970) في صحيفة “الأنوار” بعنوان “نرفض هذه اللغة” فقال “ونعني لغة التهديد بالثورة إذا نجح الرئيس كميل شمعون في المعركة الرئاسية، والتهديد من جهة أخرى إذا نجح الأستاذ الياس سركيس، إننا نرفض هذه اللغة أيا كان مصدرها لأنها لغة أهل الغاب”.
وفي اليوم التالي (16 ـ 8 ـ1970) استأنف الصحافي باسم الجسر ما كان سطّره سعيد فريحة بطعنه خطاب أهل النظام ودفعهم البلاد للتأرجح فوق رؤوس الرماح فكتب في “الأنوار” قائلاً “هل تلك هي أصول الديموقراطية البرلمانية، أم اننا نعيش اليوم نهاية نظام سياسي يأبى أهله إلا أن يشبعوه إرهاقاً حتى آخر رمق فيه ليكّفروا الشعب به”؟
وفي جانب آخر من المشهد الإنقسامي الحاد وحيث عجزت النخبة المارونية إلى ما قبل ايام قليلة من العملية الإنتخابية عن التوافق حول شخصية رئاسية تحظى بموافقة الشركاء الآخرين، يقول الزعيم الوطني صائب سلام في كتاب مذكراته “أحداث وذكريات”: “من جهتنا تعدّدت اجتماعاتنا، وكان مأزقنا أننا رغم اتفاقنا على ضرورة التخلص من الحكم القائم لم نتمكن من الإتفاق على مَن سنأتي به، فشمعون غير مقبول عربياً، وبيار الجميّل لا يحظى بالإجماع وـ ريمون ـ إدّه بدأ ينفرط عقد المؤيدين من حوله فماذا نفعل؟ هنا كان اقتراح وجيه تقدّم به شوكت شقير وهو أن نطلب من كل الفعاليات المارونية الحليفة لنا أن تجتمع وتتفق على مارونيّ مناسب نؤيده نحن، لكن هذا الإقتراح ما لبث أن تلاشى”.
قبل يومين من الدعوة إلى الجلسة النيابية الإنتخابية (17 ـ 8 ـ1970) لم يكن إسم الرئيس محسوماً، هكذا يقول الرئيس سلام، فثمة مرشحون كُثر، بيار الجميل وكميل شمعون وريمون إده وفريد الدحداح وحبيب كيروز وجميل لحود وفؤاد عمون وسليمان فرنجية والياس سركيس، بل إن الرئيس فؤاد شهاب كان على رأس قائمة المرشحين إلى تاريخ إصداره بيان العزوف عن الترشيح في الرابع من آب/أغسطس، وفي اليومين اللذين سبقا التاريخ الإنتخابي حصل ما حصل بحسب رواية سلام إذ يقول:
“كان 15 آب/أغسطس، يوماً حاسماً وكان يوم سبت، ولم يبق على موعد جلسة الإنتخابات سوى يومين، ومن هنا اختلطت الأمور أكثر وأكثر، وبات شبه واضح لنا أنّ الرئيس رشيد كرامي وجنبلاط اتّفقا على أن يكون الشيخ فريد الدحداح مرشّحهما، لم يكن لي اعتراض عليه، لكنّني كنت أريده مرشّح تسوية لا مرشّح معركة، والفارق بين الحالتين كبير، أما جنبلاط فقد تشبّث بموقفه، وجاء ليقول لي إننا إذا لم نوافق معه على الدحداح فإنه سيكون مضطراً لقطع الطريق على شمعون وللإنضمام إلى النهجيين وانتخاب إلياس سركيس، ومع ذلك استخدمتُ التروّي معه، وكنت أعلم أنّ أيّاً من الأمور لن يُحسم نهائياً اليوم، وأن اللعبة كلها سوف تُلعب غداً الأحد، وبالفعل، جاءت التطوّرات الأساسية يوم الأحد وكانت مدهشة، أوصلتنا إلى انتصار مفاجئ لم نكن نتوقعه”.
حدة التوزع النيابي وتشعبات المشارب النيابية لا تمنع انتخاب رئيس للجمهورية في حال توافرت إرادتان، إرادة الحوار والخروج من معضلة الفراغ الرئاسي وإرادة عدم الإقتراب من الخطوط الحمر المتمثلة بالإنقسام العمودي والإستقطاب الحاد، وفوق ذلك من يضمن ألا تأتي نتائج الإنتخابات المبكرة بمجلس نيابي شبيه بما هو قائم
يوم الأحد في السادس عشر من آب/أغسطس 1970، خرجت صحيفة “الأنوار” بهذا العنوان “لا جديد بعد ترشيح شمعون، الجميل مستمر، إده ينتظر، الوسط يناور، غداً قرار النهج بترشيح سركيس، جنبلاط محور النشاط الإنتخابي”.
وصباح اليوم الإنتخابي (17 ـ 8 ـ1970) استعرضت “الأنوار” موازين القوى النيابية وألوانها وتلويناتها المتضاربة والمتلاطمة، فكتلة “الحلف الثلاثي” 33 نائباً و”كتلة الوسط” 17 نائباً، و”التقدمي الإشتراكي” 7 نواب، و”الطاشناق” 4 نواب و”الحزب الدستوري” 3 نواب، وحزب “النجادة” نائب واحد، وأما “الجبهة الديموقراطية البرلمانية” المؤيدة للرئيس شهاب فهي الأكبر، بحسب “الأنوار” لكنها لم تورد عدد نوابها، فيما كلوفيس مقصود الذي كان يراسل صحيفة “الأهرام” المصرية (17 ـ 8 ـ1970) فقد حدّد نواب الجبهة بخمسة وأربعين نائباً وأما نواب جبهة “النضال الوطني” التي كان يتزعمها كمال جنبلاط فعددهم 14 نائباً مثلما جاء في “الأهرام”.
كانت التقديرات العائدة للشهابيين وبعد استقرار المواجهة بين سليمان فرنجية والياس سركيس، أن الأخير سيفوز بعدد من الأصوات سيبلغ ستين صوتاً، وكما هو معروف سقطت هذه التقديرات ونال فرنجية 50 صوتاً مقابل 49 صوتاً لسركيس، وما جرى خلال العملية الإنتخابية وما بعدها، تتجاوز أخطاره ما قبلها، فقد شهدت دورات الإقتراع حالات نيابية تمردية على قرارات أحزابها كما حدث مع نائب أو أكثر من نواب “التيار الوطني الحر” في جلسة “الأربعاء الكبير” في الرابع عشر من حزيران/يونيو الحالي، كما وقفت البلاد على حافة حرب حقيقية عقب رفض رئيس مجلس النواب صبري حمادة الإعتراف بفوز فرنجية.
عن “النواب العُصاة” أو “النواب المتمردين”، يتحدث أحمد زين الدين في “صفحات من حياة الرئيس صبري حمادة”، فيقول:
“بعد إعلان كمال جنبلاط تأييد جبهة النضال الوطني التي يرأسها للنائب سليمان فرنجية، لم يمتثل لهذا القرار النائبان معروف سعد وبهيج تقي الدين اللذان أيّدا الياس سركيس، وتبين للرئيس حمادة أن الفارق لن يكون إلا صوتاً واحداً لمصلحة سركيس، فكان أن تكثفت الإتصالات حيث تمكن النهجيون ـ أنصار الرئيس فؤاد شهاب ـ من إقناع أحد نواب الكتلة الوطنية بتأييد مرشحهم، وبعد إجراء الدورة الإنتخابية الأولى حيث لم يفز احد من المرشحين، علم العميد ريمون إده بما جرى، فعمد في الدورة الثانية إلى وضع ورقتين في صندوق الإقتراع، فكان أن ألغيت هذه الدورة بعد أن تمكن إده من كشف النائب الذي تم إقناعه بتأييد سركيس، فأنّبه على ذلك ورده إلى خانة النائب فرنجية”.
وفي أخبار “النواب العصاة” أيضاً، فقد “تمكن الرئيس كميل شمعون من إقناع أحد نواب بعلبك ـ الهرمل من انتخاب فرنجية، وتردد أن كمال جنبلاط انتزع من عضو كتلته فؤاد الطحيني ورقة كان سجل عليها الياس سركيس وأعطاه بدلا منها ورقة عليها اسم سليمان فرنجية” ووفقاً لصحيفة “الأنوار” أن أكثر من اتجاه تصويتي برز في الكتلة الجنبلاطية “فنواب الجبهة غير الحزبيين يؤيدون سركيس ونواب الحزب طالبوا بتأييد ـ جميل ـ لحود”.
لم ينته الأمرعند هذا المشهد، فإثر الإعلان عن نيل فرنجية خمسين صوتاً، حدث صخب وسخط وشغب، وعلا الصراخ والرصاص، وتدافع المنقسمون وتلاطموا، فالرئيس صبري حمادة اعتبر الخمسين صوتاً ليست كافية للفوز، واجتهاده في ذلك أنه في الدورة الإنتخابية الثالثة يجب أن يحوز الفائز على النصف زائداً واحداً من أصوات النواب، ولما كان عدد أعضاء المجلس النيابي حينها 99 نائباً فالنصف يعني 49.5 أي نصف نائب، وبما أنه لا يمكن “تقسيم” صوت النائب إلى نصفين، فالحل يكون بحصول المرشح الفائز على 51 صوتاً، ونقلت “الأنوار” وقائع ردات الأفعال الملتهبة على اجتهاد حمادة في جلسة الثامن عشر من آب/أغسطس 1970 فكتبت:
“قال حمادة يجب إعادة الإنتخاب، كان أول المحتجين سليمان فرنجية وراح يخاطب حمادة بعبارات الإحتجاج، حمادة ينهض من مقعد الرئاسة ويتوجه نحو باب الخروج، يتكاثر النواب عليه وحوله، قفز نواب بإتجاه منصة الرئاسة، النائب باخوس حكيم يحتد ويهاجم صبري حمادة ويتجه نحوه، نواب وموظفون يمنعونه، يصعد إلى الطاولة ويقف عليها، يحتد ويصرخ، يخرج الرئيس حمادة وتتكاثر الشرطة في القاعة ، انشق باب القاعة الأيمن، هجم رجل من غير النواب، راح يصرخ ويحتج، شهر مسدساً وخرطشه، وخارج المجلس كان يجري مشهد آخر، كانت الجماهير قد اقتحمت حواجز قوى الأمن وحاصرت مبنى المجلس النيابي من ثلاث جهات”.
ما هوية حامل المسدس؟ لا تتحدث “الأنوار” عن ذلك، ولكن بعد اجتهاد صبري حمادة، يقول أحمد زين الدين “حدث هرج ومرج وشهر النائب سليمان فرنجية مسدسه، فكان أن انتزعه منه سعدون حمادة وهو موظف في مجلس النواب وإبن شقيق الرئيس حمادة”.
الأصداء الخارجية لوقائع الجلسة الإنتخابية السبعينية لم يكن منسوبها أقل من مثيلتها في الداخل، فكلوفيس مقصود كتب (18 ـ 8 ـ1970) في الصفحة الأولى من صحيفة “الأهرام” قائلاً “تقدم فرنجية إلى منصة رئاسة المجلس واشتبك مع حمادة بالأيدي وساد القاعة جو من الهرج اضطر معه حمادة إلى مغادرة القاعة، وهنا أمسك فرنجية بالميكروفون وبدأ في إلقاء خطاب يعلن فيه انتصاره، ولكن الإشتباكات بين النواب كانت قد اتسعت ودوّى صوت الرصاص في أرجاء القاعة” وفي صحيفة “الدستور” الأردنية في التاريخ نفسه “انتخب مجلس النواب اللبناني سليمان فرنجية رئيسا للجمهورية، إلا أن الجلسة انقلبت إلى فوضى حين أعلن صبري حمادة رئيس المجلس أن نتيجة الإنتخاب غير قانونية”.
وعلى ما يقول الرواة وأهل الحديث أن صبري حمادة عاد إلى منصة المجلس النيابي بعدما لحق به الرئيسان رينيه معوض ورشيد كرامي إلى مكتبه، وطالباه بإعلان فوز فرنجية وإلا سينتخبانه في حال أصرّ على إعادة دورة الإنتخاب من جديد.
ما يجب قوله في خاتمة الكلام، أن حدة التوزع النيابي وتشعبات المشارب النيابية لا تمنع انتخاب رئيس للجمهورية في حال توافرت إرادتان، إرادة الحوار والخروج من معضلة الفراغ الرئاسي وإرادة عدم الإقتراب من الخطوط الحمر المتمثلة بالإنقسام العمودي والإستقطاب الحاد، وفوق ذلك من يضمن ألا تأتي نتائج الإنتخابات المبكرة بمجلس نيابي شبيه بما هو قائم، بل أكثر تنوعاً وتعدداً واختلافاً؟ ما العمل عندذاك؟ ندعو إلى انتخابات مجدداً ومكرراً؟.
أخيراً؛ من الحكايات المأثورة:
سُئل أحدهم عما تبحث في عز النهار؟ فأجاب عن حاجة ضائعة، فقيل له لعلك أضعتها في تلك العتمة، فقال: لا أملك ضوءاً حتى أبحث في العتمة هناك.
يا سيدي: حاجتنا الضائعة في تلك العتمة، حيث الحوار المفقود.