تطرح هذه الزيارات أسئلة عديدة، فهل كانت الزيارة الأولى لأجل إطلاع ميلوني المباشر على واقع تونس الإقتصادي الصعب، ثم عادت لابتزازها عبر الطلب منها بيع خدمات لأوروبا مقابل بعض المبالغ التي ستؤجل إعلان إفلاس البلاد؟
إذا كانت ميلوني تريد من تونس أن تصبح حارساً لحدود أوروبا بوجه المهاجرين القادمين من سواحل شمال أفريقيا، ستجد في حال الاقتصاد التونسي المتدهور وخطر إفلاس البلاد تشجيعاً لعرضٍ مهين للبلاد. وتكمن ضالتها في تصريحات وزيرة مالية تونس، سهام نمصية، التي حذَّرت قبل شهر ونصف من خطر الإفلاس إذا ما فشلت بلادها في سداد الديون الحالية المتوجبة ومن ثم تلك التي تأمل بالحصول عليها.
ولأن الوزيرة نفت، قبل أكثر من سنة، أن تكون تونس على حافة الإفلاس، ثم عادت، في 1 يونيو/حزيران الماضي، إلى التحذير، يحضر التساؤل إن كانت قد أجبرت على التصريح الأول، ثم طُلب منها أن تشير إلى الخطر المحدق من أجل إثارة مخاوف التونسيين من الإفلاس، في التصريح الثاني. ثم هل لهذا التصريح الأخير علاقة بتحضير الرأي العام التونسي للقبول بعرض ميلوني نتيجة الحاجة الماسة إلى منقذ؛ المنقذ الذي يتمثل هذه المرة بالاتحاد الأوروبي الذي أبدى استعداده لتقديم مساعدات لا تغني من جوع، على شكل قرض قيمته مليار يورو؟
العرض الأخير جاءت به ميلوني برفقة كل من رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين، ورئيس الوزراء الهولندي، مارك روته، في زيارتها الثانية، في 11 يونيو/حزيران الماضي، إضافة إلى تقديم 100 مليون يورو “لإدارة الحدود ودعم عمليات البحث والإنقاذ وإجراءات مكافحة تهريب المهاجرين عبر المتوسط”. كما تعهد الأوروبيون بمساعدة تونس للحصول على قرض من البنك الدولي.
وكان الطرفان قد اتفقا خلال زيارة ميلوني السابقة على تشكيل لجنة مشتركة أُنجزت خلال فترة وجيزة مذكرة الشراكة الشاملة التي وُقِّعَت في تونس بحضور الوفد الأوروبي ذاته، غير أن ما يهم ميلوني وأورسولا فون ديرلاين ومارك روته هو ما شدّدت عليه المذكرة بوصفها “خطوة هامة من أجل إحلال شراكة فعلية بين الطرفين لمجابهة أزمة الهجرة بين ضفتي المتوسط”.
ربما نرى قيس سعيِّد وقد قبِل عرض ميلوني وحوَّل بلاده إلى شرطي يحمي حدود أوروبا من المهاجرين الأفارقة، وهو الذي شنّ، قبل شهور قليلة، حملة عنصرية بحقهم طالت المقيمين منهم أيضاً، واعتقل عدداً كبيراً منهم لإعادتهم إلى بلدانهم، فقط لكي يُقدّم نفسه للأوروبيين على أنه حامي حدودهم عند الطلب
أما بالنسبة لخطر الإفلاس الذي تسلّلت ميلوني من خلاله لابتزاز التونسيين، فقد كانت وزيرة المالية التونسية، سهام نمصية، قد أقرت خلال جلسة عامة للبرلمان، في 1 يونيو/حزيران الماضي، أنه “يوجد ضغوطات كبيرة على ميزانية الدولة لأن المصاريف تفوق المداخيل والموارد الذاتية للحكومة”. وأوصت بـ”التوجه إلى القروض الداخلية والخارجية، من أجل التعهد بالمصاريف وسداد الديون الخارجية”. ثم حذّرت من أنه في حال حدوث خلل في سداد القروض الخارجية “فإننا أعلنا إفلاس الدولة”. وجاء هذا الكلام في سياق مناقشة البرلمان مشروع إقرار قرض بقيمة 500 مليون دولار من “البنك الأفريقي للتوريد والتصدير” لتمويل ميزانية الدولة.
إن كان الأمر فردياً، يُسجل للوزيرة التونسية أنها وضعت إصبعها على الجرح في بلادٍ باتت سمة الحكم فيها إنكار وجود مشكلات حقيقية تواجه اقتصاد البلاد، والتركيز على أعداء وهميين يتربصون بها من كل حدب وصوب. لكن يبدو أن الوزيرة نسيت ما صرّحت به قبل أكثر من سنة (2 فبراير/شباط 2022)، حين نفت إفلاس الدولة أو اقترابها من خطر الإفلاس، وأعادت علينا يومها سردية القاعدة الاقتصادية المدرسية والبديهية حين قالت: “الدولة المفلسة هي تلك التي تكون غير قادرة على سداد ديونها”. أما ما فات الوزيرة فهو حقيقة أن الاقتراض من أجل سداد قروض متعثرة هو أحد مؤشرات إفلاس الدولة التي لا يمكن إنكارها، بدليل أزمة نقص الخبز، منذ نهاية مايو/أيار الماضي، نتيجة سوء إدارة استيراد القمح من الخارج وتوريد الطحين للأفران.
ربما أُريدَ للوزيرة أن تُطلق هذا التحذير تحضيراً لأرضية قبول العروض الأوروبية المجحفة من أجل حل المشكلات التي باتت كثيرة إلى درجة لم تعد معها حكومة قيس سعيِّد قادرة على إخفائها أو الاستمرار بإنكارها. مشكلات يُمكن أن تنفجر في أي وقت، بينما يُحصي الرئيس سعيِّد عدد المعارضين الذين زجّهم في السجون، وعدد المرشحين الذين ينتظرون دورهم للحاق بهم.
ومع كل شروق شمسٍ جديد، تظهر في تونس مشكلة تضاف إلى أخواتها المزمنات، بسبب عدم وجود إرادة، أو بالأحرى نية، لدى أركان السلطة لحلها أو حتى البحث فيها وفي أسباب نشوئها. وطبعاً بقاء أسباب نشوء هذه الأزمات يعد مُولّداً لأزمات جديدة، وهي أزمات تتناولها وسائل الإعلام والحكومات والهيئات الغربية.
وكما رصد موقع “المونيتور” الاخباري الأميركي في أبريل/نيسان الماضي، عاد قيس سعيِّد إلى المشهد بعد أسبوعين من الغياب، لا لكي يتحدث عن خططه لتخفيف الأزمات عن الشعب، بل لكي يشتم خصومه الذين أثارهم غيابه الطويل. وأشار الموقع إلى أن هذا الغياب له تأثير بالغ على البلاد لأنها أصبحت كلها في قبضة رجلٍ واحد جعل حكمه الفردي من تونس بلداً يصل حافة الإفلاس، وجعل هم العباد فيها الهجرة عبر البحر تهريباً إلى إيطاليا والدول الأوروبية القريبة.
ولا يعد تدهور المستوى المعيشي في ظل الغلاء والتضخم الكبير والفقر والبطالة مشكلات التونسيين الأخطر، بل هنالك خطر أكبر يتمثل في فقدان الأدوية والسلع الغذائية، والتي منها ما سببته موجات الجفاف المتتالية التي ضربت البلاد، وعدم استجرار البدائل من الخارج، والتي وصلت مرحلة الندرة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. وستتعمق المشكلة أكثر وتتطور مع انعدام قدرة البلاد على استيراد المواد الضرورية، خصوصاً الغذائية لسد النقص، بسبب عدم القدرة على تأمين التمويل المالي اللازم بالعملة الصعبة لتلك المستوردات، وهو ما يدفعها للإستدانة من الصناديق الدولية، وبالتالي دخول تونس في حلقة الاقتراض والعجز عن السداد، ثم الاقتراض من أجل السداد، ما يؤسس لانهيار مالي يكون مقدمةً لانهيار اقتصادي شامل.
ولا يقع هذا الكلام في باب التكهنات، بل هو أمر واقع حذرت منه وكالة “موديز” حين خفّضت التصنيف السيادي لتونس، مع بداية السنة الحالية، إلى درجات سلبية بسبب عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية، ما يعني تصنيفها بلداً بمخاطر مالية مع جدولة بعض الديون الخارجية وتوقف سداد بعضها، علاوة على عجز الميزان التجاري بنسبة كبيرة، وتآكل احتياطيها من العملات الأجنبية، أي الدخول في مرحلة خطر الإفلاس.
يُحيل الجميع أزمات تونس المستجدة إلى الأزمة السياسية التي أوقع الرئيس قيس سعيِّد بلاده فيها، بعد انقلابه على الدستور وحله البرلمان وصياغة دستور جديد كانت وظيفته إنتاج برلمان وحكومة على مقاسه.
وسواء أجرى النظام إصلاحات غير شعبية مدفوعاً بتوصيات صندوق النقد الدولي للحصول على قرض فتزيد النقمة عليه، أم مدفوعاً بالضرورة التي يحتمها واقع البلاد وأزماتها، فإنها جميعها لن تكون إصلاحات بحجم المأمول إلا إذا شهدنا إصلاحاً كلياً يبدأ بعودة سعيِّد عن “تدابيره” الاستثنائية التي أسّست لهذا الانهيار الكبير.
هل يمكن لسعيِّد، بعد أن بنى صرح ديكتاتوريته العتيد، أن يعود عن “تدابيره” ويُنفذ أياً من الإصلاحات المطروحة؟
ربما نرى قيس سعيِّد وقد قبِل عرض ميلوني وحوَّل بلاده إلى شرطي يحمي حدود أوروبا من المهاجرين الأفارقة، وهو الذي شنّ، قبل شهور قليلة، حملة عنصرية بحقهم طالت المقيمين منهم أيضاً، واعتقل عدداً كبيراً منهم لإعادتهم إلى بلدانهم، فقط لكي يُقدّم نفسه للأوروبيين على أنه حامي حدودهم عند الطلب، هذا المظهر الذي سيظهر به بجدارة خلال اجتماع مخصص للهجرة والتنمية يعقد الأحد المقبل في روما.