ربطة العنق الإردوغانية تهزم.. “البيريه” الأتاتوركية!

لطالما كان الجيش التركي معقلاً لـ"الأتاتوركية". أنشأ باني الجمهورية وقائدها العسكري الأعلى مصطفى كمال الجيش "الحديث"، وجعله حامياً لحكمه أولاً، ومن ثم لفكره العلماني وإرثه ثانياً. لكن ذلك تغيّر اليوم وبات من الماضي.

منذ عقدين من الزمن راحت صورة المؤسسة العسكرية التركية تتبدل، في ضوء تغييرات جذرية “إنقلابية” أحدثها رجب طيب أردوغان في قيادة جيش بلاده ودوره، كان آخرها في الثالث من آب/أغسطس الحالي حين رقّى 95 جنرالاً وأدميرالاً، وعيّن قادة جدداً لهيئة الأركان والقوات البريّة والجوية، يُدينون كلهم بالولاء له.

كان “الإنقلاب الإردوغاني” الأول في العام 2004. حينذاك، أعاد أردوغان تشكيل “مجلس الأمن القومي”، وهو المؤسسة الدستورية التي اتكل عليها الجيش منذ عام 1961 لفرض سطوته على المؤسسات المدنية. في هذا “المجلس”، كان يجتمع رئيسا الدولة والحكومة ووزراء الدفاع والداخلية والخارجية، كما قادة الجيش والأركان وبضعة أدميرالات يرأسون القوى البحرية والبرية والجوية. يتم اقتراح فكرة ما، فيحتكم الجميع إلى الديموقراطية، لكن يفوز العسكر في كل تصويت لأن عددهم أكبر، فتكون النتيجة أن العسكر يُملون قراراتهم على القوى المدنية، تحت طائلة الإنقلاب العسكري إذا تمرد المدنيون عليهم.

على هذا المنوال، سارت الحياة “الديموقراطية” في تركيا، وسط تنازع على النفوذ والسلطة بين المؤسسة العسكرية، الحامية للإرث “الأتاتوركي”، وبين القوى المدنية وأحزابها المتنوعة الباحثة عن طريقة للخروج من تحت عباءة العسكر وإملاءاتهم. استمر الأمر حتى العام 2004، حين اجترح إردوغان فكرة عبقرية للتخلص من “المجلس” وأوامره وتدخلاته، فأطلق عملية سياسية وإصلاحية بحجة الدخول إلى الاتحاد الأوروبي.

“الإنقلاب الإردوغاني” الأخير أقر تعيين متين غوراك رئيساً للأركان، بعدما بات سلفه ياشار غولر وزيراً للدفاع في الحكومة التركية الحالية. ويملك غوراك سيرة تنضح بالولاء للدولة والنظام وإردوغان، وأبرزها التصدي للمحاولة الإنقلابية عام 2016

ولأن طالب الانضمام إلى “النادي الأوروبي” عليه أن يمتثل لشروط “معايير كوبنهاغن” التي تنص على “منع الجيش وقواه من التدخل في الحياة السياسية”، دفع إردوغان باتجاه هذا الإصلاح، كما عزّز، في حينه، من الدعاية لدى الجمهور التركي حيال إيجابية النوايا الأوروبية في قبول تركيا عضواً في الإتحاد الأوروبي. بهذه الطريقة استطاع إردوغان تغيير القوانين والأنظمة، فجعل “المجلس” دون قدرة على إملاء ما يريد، بعدما زاد في عضويته عدد الوزراء وقلّل عدد العسكريين، وجعل من أمين سرّ المجلس مدنياً يختاره هو بنفسه.

سقط نفوذ العسكر “الأتاتوركي” في مجلس الأمن القومي، لكن لم يكن الفِعل “الإردوغاني” كافياً لضمان ولاء الجيش له. انتظر الرجل التركي الأقوى حتى عام 2016، تاريخ المحاولة الانقلابية الفاشلة، فوجد الفرصة سانحة للتخلص من الضباط الذين لا يدينون بالولاء له وذلك بتهمة “مكافحة الإرهاب والزود عن الدولة والأمن والشعب”. تم اعتقال ومحاكمة البعض منهم كما تم اقصاء وتسريح كُثر طوال صيف وخريف ذلك العام.

عملياً، نجح إردوغان في إضعاف نفوذ وحضور القوى العسكرية غير الموالية له، ورقّى قادة ساهموا في إفشال الإنقلاب والدفاع عن حكمه.

في الثالث من آب/أغسطس الحالي، أكمل إردوغان ما كان قد بدأه عام 2004، وهو الذي يملك “ثأراً” قديماً مع العسكر العلماني الذي أقصاه عن رئاسة بلدية إسطنبول عام 1998 وسجنه لبضعة أشهر. “الإنقلاب الإردوغاني” الأخير أقر تعيين متين غوراك رئيساً للأركان، بعدما بات سلفه ياشار غولر وزيراً للدفاع في الحكومة التركية الحالية. ويملك غوراك سيرة تنضح بالولاء للدولة والنظام وإردوغان، وأبرزها التصدي للمحاولة الإنقلابية عام 2016 في العاصمة أنقرة، كما تعرض للاختطاف والسجن لبضع ساعات من قبل الانقلابيين “لرفضه الانقلاب على الشرعية”.

عدا عن غوراك، تمّ تعيين الجنرال سلجوق بيرقدار أوغلو قائداً للقوى البرية، والجنرال ضيا كادي أوغلو قائداً للقوى الجوية، وهما المُقرّبان من إردوغان واللذان ساهما بقدر مقبول في إفشال المحاولة الإنقلابية، فيكون بذلك قد اكتمل مشهد إطباق الرئيس التركي على قيادة الجيش. هذا “الإنقلاب الأبيض” الذي احتاج حوالى عقدين من الزمن إكتمل الآن، حيث بات الترقي والوصول إلى المراكز العليا مرتبطاً بالولاء للحكم ولإردوغان.

في الصورة الرسمية التي وزعها القصر الرئاسي التركي (أعلاه)، ثمة دلالة أكثر من واضحة على تسيّد السلطة المدنية التي يرأسها إردوغان على الجيش. جلس إردوغان على رأس الطاولة الرئاسية يوقع مراسيم التعيين، فيما وقف قائد الأركان صاغراً ينتظر انتهاء رئيسه من التوقيع. انتصرت ربطات العنق المدنية على “بيريه” العسكر بعد سنوات طويلة من الصراع بينهما. فاز إردوغان ودُفن “أتاتورك” للمرة الأخيرة.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  بايدن يغرق في أوروبا.. ويضل طريقه إلى آسيا!  
تركيا ـ جو حمورة

كاتب لبناني متخصص في الشؤون التركية

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  عن الإسلام السياسي الذي يُقَطّع شرايين حياة المشرق العربي (1)