الخطاب الرائج يؤكّد أنّ الخروج من حالة الاستعصاء السائدة لن يتمّ إلاّ من خلال توافقات دوليّة جديدة. ربّما! إلاّ أنّ توافق وثيقة جنيف 1 الدولي في نهاية حزيران/يونيو 2012 لم يمنعَ تفجّر الصراع عسكريّاً وبشكله الأسوأ. والتوافق الدولي في قرار مجلس 2254 سنة 2015 لم يأخذ إلى آليّة مفاوضات سورية-سورية لها نهاية مرتقبة. ولا يُمكِن حقّاً وضع آمالٍ في توافقٍ دوليّ جديد في ظلّ تصاعد الحرب في أوكرانيا وعليها وفي ظلّ اتساع حرب إسرائيل على فلسطين واحتمالات اتساعها.
ما هو واضحٌ فقط أنّ هناك بوادر توجّهات إقليميّة جديدة تجاه السلطة القائمة في سوريا، سواءٌ من جانب السعودية والإمارات، أو من تركيا. وقد تأخذ هذه التوجّهات إلى أوضاعٍ جديدة تَفرُض مسارات جديدة. كما أنّ هناك ملفّ اللاجئين السوريين الضاغط على لبنان والذي يُثار مع تداعيات خطيرة محتملة، إلى جانب انخفاض الدعم المالي الأوروبي والعالمي لإغاثة السوريين ومساعدتهم.
لكنّ إنهاء الصراع وإعادة توحيد البلاد وبداية التعافي، حتّى المبكّر منه، وكذلك إعادة النازحين واللاجئين إلى ديارهم، هي كلّها أوّلاً وأخيراً مسؤوليّة سوريا والسوريين.. وليس أيٍّ أحد كان من الخارج. وقد يبدو التنطُّح بهذه المسؤوليّة صعباً لما كلّفه الصراع من مآسٍ ودمار وانتهاكات تركت أثراً عميقاً في الأذهان والوجدان والواقع ولما زُرِعَ في العقول من إمكانيّة انتصارٍ حاسمٍ لطرفٍ من الأطراف مما يمكّنه من فرض رغبته على الآخرين. هذا مع عدم وضوح ما سيأخذ إليه هكذا انتصار؟
وفي الوقت الذي يتمّ التحدّث فيه عن الانتقال من الإغاثة نحو التعافي المبكّر دون إعادة الإعمار، أو عن وجود مناطق آمنة في سوريا أم لا، يغيب الحديث عن عناصر بناء السلام في سوريا انطلاقاً من الواقع القائم كما هو.
والوصول إلى بناء السلام بعد ثلاث عشرة سنةً من الصراع ليس أمراً سهلاً.. وواضحٌ أنّه لا يُمكِن أن يأتي على شاكلة خروج لبنان من الحرب الأهليّة مع فرض توافقٍ بين أمراء الحرب في ظلّ دولةٍ ضعيفة وبروز مستثمر يأتي بالرخاء. مع كلّ ما أدّى إليه هذا “الحلّ” من كارثة يعيشها لبنان اليوم.
المخاطرة بالمبادرة ينطلِق من تقييم كلٍّ من السوريين لما هو أساسيّ اليوم؟ عيش السوريين بكرامة في جميع المناطق أم تسوّل المساعدات؟ الارتقاء إلى المواطنة أم التمسّك بالفئويّة؟ إعادة توحيد سوريا أم الاستمرار في التقسيم؟ الحفاظ على الدولة أم انهيارها نهائيّاً؟ انتظار المنقِذ الخارجي أم أخذ السوريين بزمام أمورهم؟
الفارق الأساسي مع حالة لبنان أنّ الدولة السوريّة ما زالت قائمة اليوم بمؤسّساتها، برغم كلّ ما اعتراها من خلخلة وتسلّط خلال الصراع، وبالرغم من محاولات خلق مؤسّسات “دولة” موازية في الشمال الشرقي وفي محيط إدلب. وبالرغم أيضاً من الرأي في النهج الذي اتخذته السلطة التي تقودها. وهذا يعني أنّ هذه الدولة السوريّة طرفٌ أساسي في بناء السلام برغم كلّ المآخذ وإجراءات التفكيك الناجمة عن العقوبات الخارجيّة. وهذا يعني عدميّة رفض التعامل مع الدولة السورية، وما يعني أيضاً مسؤوليّات تقع على عاتقها أساساً في وضع آليّات بناء السلام وليس فرضه بالقوّة. إذ أنّها في نهاية المطاف الوصيّة على صون العقد الاجتماعي لكلّ المجتمع السوري.
إعادة بناء الثقة هي أولى خطوات بناء السلام. وهذا يتطلّب بدايةً التواصل، مع أطياف المجتمع وبين الذهنيات المتضاربة، للخروج من واقع أنّ كلّ طرفٍ من أطراف التقسيم السوريّ له سرديّته ووسائل إعلامه التي لا همّ لها سوى تقويض الأخرى.
لقد انقطع مثل هذا التواصل لسنوات. إلاّ أنّ المسلسلات التلفازيّة التي تمّ إنتاجها مؤخّراً في ظلّ الرقابة الحكوميّة قد فتحت مجالاً لطرح قضايا شائكة ووجهات نظر مغايرة للوجهة الرسميّة، وكان لها وقعها. كما أنّ هناك بوادر تواصل بين جهات رسميّة مع سوريين هاجروا بلادهم “لتسوية أوضاعهم” والخروج عن منطق الانتقام ممّن لم يتبع التوجّهات التي تبنّتها السلطة القائمة.
إلاّ أنّ هذه “المبادرات” تبقى محدودة وبطيئة النتائج. إذ لم ترقَ وسائل الإعلام الرسميّة أو الموالية لها، وكذلك وسائل الإعلام التي تنطِق باسم الشمالين الغربي والشرقي، إلى فتح قنوات التواصل بشكلٍ صريح مع أطرافٍ لها آراء وتوجّهات سوريّة مغايرة لنهجها. والأنكى أنّ بعضها يدّعي أنّه يمثّل “الحريّة” في حين لا يُسمَح إلاّ بمن ينطق بذات الذهنيّة أن يكتب فيها أو يظهر عليها.
كذلك ليست الإشكاليّة في سوريا هي فقط إشكاليّة أفراد مع الدولة وقوانينها، بل إشكاليّة فئات اجتماعيّة دخلت في صراعات مع بعضها البعض على أصعدة مختلفة، ومع السلطة. فكيف يُمكِن رأب الصدع الاجتماعي الذي حدث في حمص وريفها، أو في غيرها من المناطق دون وضع المظالم والمصالح والطموحات على طاولة الحوار لفتح إمكانيّة المصالحة وعودة النازحين واللاجئين وتعويض الضرر، عاجلاً أو آجلاً.
على صعيد التواصل والحوار، هناك بالطبع مسائل أصعب التعامل معها من غيرها. ومع تداعي أفق آليات الإغاثة والدعم الدولي التي ترسّخت لسنوات، بات الكثيرون يتطلّعون إلى البحث عن مستقبلٍ معقولٍ أكثر من الإصرار على الانتقام من ماضٍ كان شديد القسوة والظلم. ولا ننسى أنّ هذا التواصل والحوار ليس فقط مع من هو خارج منطقة السيطرة، الحكوميّة وغيرها، بل أيضاً ضمن كلٍّ من مناطق السيطرة وخاصّة تلك للسيطرة الحكوميّة. إنّ إطلاق مناخ من حريّة التواصل والنقاش أساس لأيّة عمليّة بناء ثقة.
لا تعني أولويّة مسؤوليّة الدولة في المبادرة في إجراءات بناء الثقة وبناء السلام أنّ هكذا مسؤوليّة لا تقع أيضاً على السوريين كأفراد ومجتمعات. هذا بالرغم من كلّ الحذر أنّ أيّة مبادرة يُمكِن أن تستغلّ لصالح طرفٍ أو آخر أو لتبرير نهجه. إلاّ أنّ المخاطرة بالمبادرة ينطلِق من تقييم كلٍّ من السوريين لما هو أساسيّ اليوم؟ عيش السوريين بكرامة في جميع المناطق أم تسوّل المساعدات؟ الارتقاء إلى المواطنة أم التمسّك بالفئويّة؟ إعادة توحيد سوريا أم الاستمرار في التقسيم؟ الحفاظ على الدولة أم انهيارها نهائيّاً؟ انتظار المنقِذ الخارجي أم أخذ السوريين بزمام أمورهم؟ وبالأخصّ، هل يخلق الانعطاف الكبير الذي أحدثته جرائم الإبادة الجماعيّة في غزّة والتواطؤ الدولي معها فرصةً نادرةً لإعادة رأب الصدع السوريّ أم لا؟
ما يعني في الإجابة عن هذه الأسئلة أنّ المخاطرة المتضمّنة في المبادرة تنطلق من مصلحة عامّة أكثر من مصلحّة ذاتيّة.
(*) اللوحة أعلاه (البيت الدمشقي التقليدي) من ألبومات الفنان التشكيلي السوري الراحل سعيد تحسين