يُعيد الاتفاق السعودي الإيراني عقارب الساعة تسع سنوات إلى الوراء. يوم كانت هناك علاقات دبلوماسية بين الرياض وطهران تزامناً مع فراغ رئاسي أقام في بيروت أكثر من سنتين ونصف السنة. ومن يراجع التاريخ سيجد أن الفراغ الرئاسي داهم بيروت في العام ٢٠٠٧ وكانت هناك أيضا علاقات دبلوماسية بين دمشق والرياض وبين الرياض وطهران. المقصود هو أنه إلى حين وصول تأثير الاتفاق الثلاثي ضفاف البحر المتوسط سيبقى الاستحقاق الرئاسي اللبناني، من وجهة النظر السعودية، رهن آليات ومناخات داخلية وخارجية لا يمكن التحكم بها بسهولة.
ولا يملك مراقب للحركة النشطة والمتكررة على خط بيروت – الرياض تفسيراً أو تأثيراً على جدار الصمت السعودي تجاه الاستحقاق الرئاسي، خاصة أن الحركة مقتصرة على فريقين سياسيين لبنانيين وبعض المستقلين الساعين إلى كسر جدار الصمت. في الوقت ذاته، يوحي هؤلاء لحلفائهم وأخصامهم اللبنانيين على السواء أنهم يستطيعون ترجمة الصمت السعودي بسياسة ما أو تزكية ما لمرشح دون آخر، لتخرج بعدها وسائل التواصل الاجتماعي بأخبار وخبريات لم ينزل الله بها من سلطان. رحلة من بعد رحلة ولبنان البلد يتعرض للاستنزاف الاقتصادي والمالي والنقدي والإرهاق الاجتماعي جراء انتشار مرض الفراغ في أجهزته الحكومية إلى حد إنتفاء معالم الدولة.
***
ما يجري اليوم من تحليل للموقف السعودي من قبل أطراف داخلية لبنانية إزاء الإستحقاق الرئاسي يُبرهن عن فهم ضيق لمعنى الصمت السعودي وليس للمصالح والسياسة السعودية فقط، لكأن حواراً يدور بين اثنين وبلغتين مختلفتين. وبينما يصر جانب لبناني على الحوار بلغة لا يريد سماعها أهل الرياض، فإن شعار الحرية والسيادة والاستقلال أثبت عقمه وصار مجرد لغة خشبية لا تغني ولا تسمن من جوع.
خط الرياض – بيروت السياسي سيبقى عبارة عن “جعجعة” بلا طحين، طالما لا أحد في لبنان يلتقط مفردات اللغة السعودية الجديدة أو حتى الصمت السعودي الجديد. الرياض تبحث عن شريك مُطوّر لا عن مقاول من الباطن. تبحث عن سياسة مستدامة لا عن سياسة موسمية. طال الانتظار فآثرت الصمت. والصمت أبلغ من التصريحات أحياناً. وكلاهما فعل سياسة
كما ان اللغة السياسية التقليدية اللبنانية التي تكاد “تؤمن” بالفرادة اللبنانية في استدراج الخارج إنتهت أيضاً، من وجهة نظر السعوديين، حتى أن لغة دعم طائفة محددة على حساب اخرى أو مذهب محدد على حساب مذهب آخر، ولّت من دون رجعة. فالرياض ـ وأقصد رياض اليوم ـ لا تنظر الى بيروت من خلال الجماعات والألوان، ولا حتى من خلال صيغتها الفريدة او ديموقراطيتها التوافقية أو بنيانها السياسي أو الطائفي الهش. هي تنظر الى لبنان لناحية مردوده ونتائجه. بمعنى آخر، لا تبدو الرياض مهتمة بأصل إدارة الاستحقاق الرئاسي لا في بيروت ولا في أي عاصمة أخرى. هي تريد إدارة نتيجة هذا الاستحقاق في بيروت وفي غيره من العواصم تبعاً لمنظومة قيمها ومصالحها، أياً كان الفائز بكرسي الجمهورية الأول. هناك خارطة طريق سعودية تبدأ من ورقة الكويت وتمر بورقة نيويورك وصولاً الى ورقة باريس (التي هي ورقة نيويورك مطعمة بحضور مصر وقطر).
***
قد يقول قائل إن الأحزاب والطوائف اللبنانية أقوى من أجهزة الدولة اللبنانية. وهذا صحيح. وأن حزباً لبنانياً بكل ما يمتلك من نفوذ وترسانة سلاح وإعلام هو قضية إقليمية أكبر من لبنان. ربما يكون هذا صحيحاً من وجهة نظر لبنانية، لكن ما الذي يمنع 128 نائباً في البرلمان اللبناني من انتخاب رئيس جديد للجمهورية؟ هل للفريقين الناشطين على خط بيروت – الرياض المقدرة أو الجرأة على انتخاب رئيس في ظل الصمت السعودي؟
بلغة الأرقام، لو توفر النصاب الدستوري وصوّتت كتلة أحد هذين الفريقين لمصلحة زعيم تيار المردة سليمان فرنجية أو قائد الجيش اللبناني العماد جوزاف عون بكل تأكيد سيكون للبنان رئيسه في اليوم نفسه، لكن هل يفعلها البعض ويتحمل مسؤولية قراره من دون أن تأتي إليه كلمة السر المعتادة منذ زمن خط بيروت – الشام؟
بلغة السياسة، لبنان المأزوم حتى النخاع بحاجة إلى أي رئيس. بحاجة الى من يملأ الفراغ المقيم جراء حسابات خارجية وهمية. اتفاق نووي جديد أو تطبيع بين الرياض وطهران. لكن بقوة الحقائق اللبنانية والإقليمية، فإن الاتفاق الثلاثي يرسم خريطة جديدة على ضفتي الخليج العربي وربما البحر الأحمر مفتاحها سكوت المدافع في اليمن، لكن البحر الأبيض المتوسط قضية أخرى تلامس حدود الأمن الأطلسي. على الطبقة السياسية اللبنانية فهم حركة السعودية ضمن هذا السياق الجديد.
***
إلى الآن لا توجد كلمة سر. ولربما لن تأتي. وإلى حين صدورها، لبنان لا يحتمل الانتظار. قد تكون هذه هي المرة الثانية في تاريخ الجمهورية اللبنانية التي ينتخب فيها رئيس جمهورية لبناني صُنع في لبنان.
على الطبقة السياسية في لبنان مجتمعة مراجعة حركة الرياض في السنوات الاخيرة على الساحة الدولية لفهم لغتها السياسية المستجدة. ولفهم معنى صمتها تجاه الاستحقاق الرئاسي. إحدى شواهد عدم فهم هذه اللغة المستجدة هو إصرار البعض في بيروت على إعتبار صمت المملكة تأبيناً لاتفاق الطائف.
ثمة إستدراك لا بد منه. الرياض تراجع علاقاتها الدولية والإقليمية. هي لا تريد إنهاء اتفاق الطائف بمقدار ما تريد التوصل إلى آلية تنفيذية جديدة لهذا الاتفاق. آلية تأخذ في الاعتبار أموراً أساسية في سياق التحول الجيوبوليتيكي والاقتصادي العالمي، أبرزها موقع المملكة في التحولات الدولية المقبلة من خلال مشاريعها ورؤيتها لنفسها وللجوار وللعالم بأسره. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لا دعم وودائع وهبات سعودية لأي كان من دون حساب أو رقابة. لا أحد يحتكر العلاقة مع الرياض. فالاحتكار فساد والسعودية تحارب الفساد في المملكة فكيف لها أن تُموّله في بيروت أو في أي عاصمة عربية أخرى؟
***
إذا كانت الرياض قد قرّرت تصويب آلية علاقتها الإستراتيجية التاريخية مع الولايات المتحدة من خلال إعادة تصويب الاتفاق الذي جرى على متن البارجة الامريكية كوينسي، خلال اللقاء الشهير بين الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن والرئيس الامريكي فرانكلين روزفلت قبل أكثر من تسعة عقود، فما الذي يمنعها من إعادة تصويب آلية تنفيذ اتفاق الطائف ولم يتجاوز عمره الثلاثة عقود ونصف العقد؟
في الأصل، لا تعتبر الرياض اتفاق الطائف بداية نفوذها اللبناني. اتفاق الطائف وسيلة وليس غاية. لكن عندما تتحول الوسيلة إلى عنصر سلبي مُستنزِف للمال والطاقات لن تخجل الرياض من إعادة تصويبها. وهو مقتضى ما يقال في الإعلام السعودي عن استغلال الطبقة السياسة اللبنانية للدعم السعودي.. وهو ما يقوله الشعب اللبناني كذلك، فهل هناك في لبنان من يُثبت للبنانيين أن ما نفذ هل كان إتفاق الطائف أم تفاهمات واتفاقات أخرى.. والدليل أين ذهبت آلية إلغاء النظام الطائفي في لبنان وهو علة العلل؟
خط الرياض – بيروت السياسي على زخمه سيبقى عبارة عن “جعجعة” بلا طحين، طالما لا أحد في لبنان يلتقط مفردات اللغة السعودية الجديدة أو حتى الصمت السعودي الجديد. الرياض تبحث عن شريك مُطوّر لا عن مقاول من الباطن. تبحث عن سياسة مستدامة لا عن سياسة موسمية. طال الانتظار فآثرت الصمت. والصمت أبلغ من التصريحات أحياناً. وكلاهما فعل سياسة. لأجل ذلك صنعت المؤسسات التي تتحدث بلغة السياسات وليس بلغة الأفراد. هذه إحدى مشاكل العلاقة السعودية اللبنانية. الطرف اللبناني يصر على مزاولة الحوار عن طريق الأفراد لا المؤسسات..
***
يقول الصحافي والدبلوماسي اللبناني الراحل غسان تويني إن كل رئيس للجمهورية في لبنان يبدأ عروبياً وينتهي انعزالياً. فتى العروبة الأغر كميل شمعون أصبح في آخر عهده أحد أركان “تحالف بغداد”.
إميل لحود بدأ عهده “مُحرّراً للجنوب اللبناني وانتهى وحيداً في القصر”. ميشال عون “دشّن عهده من زيارة خارجية أولى إلى الرياض وأنهاه بتوقيع ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل، فإذا دشّن الرئيس المقبل عهده بتوقيع اتفاقية مع صندوق النقد الدولي في أي “جل لبناني أو عربي” سينتهي”؟ وعلى سيرة عروبة لبنان، “أي عروبة يريدونها في الرئيس؟ ومتى يريدونها؟ وهل من عروبة من دون إقتصاد أو حتى من دون دولة”؟
المجتمع الدولي يأخذ من لبنان بالقطعة لا بالجملة. وكثرة الحركة لا تعني الإنتاجية. سوء الفهم بين الدول يحتاج إلى التفاهم لا إلى المنطق. يحتاج إلى الإتفاق على الأولويات والمفاضلة بين ما هو مهم وما هو أهم. هل يستطيع الساسة اللبنانيون عمل الشيء ذاته؟ ليس مهماً إسم الرئيس لكن الأهم برنامج عمله. والبيئة السياسة اللبنانية لديها تراكم مفاهيم عن السعودية على مدى سنوات تأبى أن تُغيّرها.
***
ختاماً، وبلغة الأرقام: هناك أكثر من عشرين إتفاقاً اقتصادياً بين الرياض وبيروت يمكن تفعيلها بكبسة زر وليس بكلمة سر. من سيكون “الفدائي” الذي سيكبس هذا الزر؟
(*) بالتزامن مع “الشروق“