غيلان الصفدي.. التجريبي المُطرّز بألوان ووجوه وأقنعة كثيرة

"لم يرسمني أحد.. فرسمت نفسي"، يُجيب غيلان الصفدي، الفنان التشكيلي السوري، مُبتسماً رداً على سؤالي: "أهذا أنت في اللوحة"؟

ما يزال غيلان مُنكباً على وجهه فوق طاولة لها قصة مختلفة غير آبه لوعده هو بالتغيير، ربما لم يجد لبحثه نهاية ولا عثر على ما دأب عليه.

وجهه ووجوه الحقيقة المختلفة ما زالت قيد البحث وصولاً إلى معرضه الأخير “لكل طاولة قصة”.

ينعكس غيلان الصفدي في ألوانه الزاهية، الحاكية، الفاقعة، الناصعة. أراه يُعبّر بصراحة وحرارة وتجريبية عن بحثه الإنشائي؛ عن هويات ضائعة في إحتشاد المعاني في الوجوه.. والتحشيد هنا ليس مجانياً. ولعلّ لوحة العشاء الأخير هي لب تساؤلاته الوجودية بكل تجلياته اللونية والتصميمية.

لا أحد ينظر في الإتجاه نفسه، التآلف والتنافر والكونية والعولمة تستقر قرب سمكة على طاولة واحدة.

“تَشهد لوحتي حالة من التطوّر الدائم. تجاربي أصبحت أوضح أكثر فأكثر، وأميلُ منذ فترة إلى الأبيض والأسود نظراً لما يعكسان من إحساس كآبة”، كما ينقل “أتاسي فونديشين” عن غيلان، قبل سنوات، عندما كان مُغرقاً في صمته اللوني بالأسود والأبيض. هو ابن سوريا الذي صار لبنان والعالم يعرفه أكثر من بلده. معارضه في العاصمة اللبنانية تم تدشينها منذ العام 2012، أي غداة إندلاع النار السورية.. وهل يُمكن فصل الفن عن الواقع؟ عن الموت والجنون والتهجير والعزلة وكورونا والعبثية السوريالية على مسرح بلد منقسم ومتعدد الإحتلالات؟

عبثية نجدها في ألوان وأشخاص وشخصيات غيلان الصفدي. كأنك تحضر في معرضه فيلم المخرج الصربي الشهير أمير كوستاريكا (Underground).

لم يفِ غيلان بوعده منذ معرضه الأخير في الغاليري البيروتي الكائن في محلة الجميزة في الأشرفية (Art on 56th) ولم يخن موضوعه الأثير ولا يعيبه الإصرار ما لم يستنفذ كل جماليات الموضوع ويزيدنا من كؤوسه الموضوعة فوق الطاولة ثمالة.

ولكن ما فعله كان أعمق بكثير؛ استل ريشة عملاقة وغيّر زاوية الرؤية والرواية.

لا يعرف كثيرون أن لعبة الطاولة هي في الواقع واحدة من أقدم الألعاب المعروفة وعمرها أكثر من خمسة آلاف عام. طاولات على أنواعها تعود مع غيلان الصفدي. تمتد مثل ركح يعني معناه ولا معناه. قد يكون الإنسان استخدم الطاولة للعب قبل أن يستخدمها لمأدبة الطعام والشراب. لقد كان البساط الأرضي الأثير هو المائدة التي تستوي عليها أجساد البشر في حضرة الأكل والسهر والدرس حتى زمن ليس ببعيد. جاءت الحضارة المدنية لتُغير عادات الناس وصار لكل طاولة قصتها.

“لكل طاولة قصة” (Every Table Has a Story)؛ هو عنوان معرض الفنان التشكيلي غيلان الصفدي الذي قدّم من خلاله تنويعاته الجديدة وإحتشاد الوجوه فوق كل الجماد والأشياء.

الوجوه هي الحياة بصدقها وزيفها والحياة عند الفنان الصفدي زاخرة بالحب والغضب والكآبة والتجهم والثورة على المألوف والسائد والقواعد التي تُكبّل كل عمل إبداعي لا يدخل في منظومة القيم والأفكار المهيمنة.. وما أكثرها في زمننا هذا؟

يعتبر الوجه البشري من أكثر المواضيع تعقيداً وجاذبيةً للفنانين على مر العصور. ففي محاولة لالتقاط جمال وعمق الإنسانية، استخدمت فريدا كالو بورتريهاتها الشخصية بكثافة مدهشة للتعبير عن حالاتها الإنسانية. موهبتها الاستثنائية تميّزت بتكرار الوجوه بأسلوب يتجاوز مجرد الرسم إلى عمق الحالات الإنسانية.

والصفدي هو فنان تشكيلي معاصر معروف بأسلوبه الابتكاري في الرسم. وُلد في مدينة السويداء في سوريا (1977). نشأ في بيئة غنية بالثقافة والتاريخ. منذ صغره، أظهر اهتماماً بالفن والتعبير البصري، ما قاده إلى مكانة مرموقة في عالم الفن التشكيلي.

درس غيلان الفنون الجميلة في سوريا (تخرج 2002). تلقى تدريباً أكاديمياً مكثفاً في الرسم والنحت. وخلال دراسته، تأثر بالعديد من الأساليب الفنية التقليدية والحديثة، مما ساعده في تطوير أسلوبه الخاص، وصولاً إلى تكوين هويته الفنية الخاصة التي تعرفها ما أن تطأ قدمك معارضه أو تلمح عيونك وجوهه.

شارك الصفدي في معارض فنية عربية ودولية، حيث عُرضت أعماله في العديد من المدن الكبرى حول العالم، مثل باريس ولندن وسويسرا وحصل على جوائز وتكريمات عديدة تقديراً لإبداعه وإسهاماته في تقديم أعمال تشكيلية فنية جديدة معاصرة ومبتكرة.

غيلان الصفدي يعتبر من أبرز الفنانين التشكيليين من أبناء جيله.. يبقى اسمه مرادفًا للإبداع والتجديد في الفن التشكيلي، مجسداً رؤية فنية تعكس التقاليد والثقافة السورية بأسلوب حديث، ومع ذلك، لا تقتصر موهبة غيلان على الواقعية فقط، بل تتجاوزها إلى عالم التعبير الفني، من خلال استخدام لمسات فنية مبتكرة، ينجح من خلالها في تجسيد المشاعر والأفكار التي تتجاوز الوجه نفسه، وتمتزج مع خلفيته وتحيط به.

تُترجم لوحات غيلان رسالة فنية تُعبّر عن عمق الإنسانية وتنوعها.. يعكس في كل لوحة جانباً مختلفاً من تجربة الإنسان ورحلته في الحياة. وهكذا، تصبح لوحاته ليست مجرد أعمال فنية بل قصصاً تحكيها الوجوه بكل تعقيداتها وجمالياتها.. وإن جنح نحو التجريد في لوحة واحدة تعتبر محاولة جريئة لا تشبه أعماله الأولى ولكنها تعد بتغيير وتنويع واختبار يشبه شخصية غيلان الغنية.

إقرأ على موقع 180  مظاهرات تايلاند: إرث راتسادون أم ثورة ساندويتشات؟ (1)

من يعرف الفنان غيلان الصفدي يُدرك إدمانه على العمل والإنتاج والإبداع. حين يستغرق في لوحته لكأنه يستغرق في لحظة الخلق وفي سر الوجود فقد إستطاع حفر مكانته المميزة بين فناني ومبدعي جيله في مدينة بيروت التي تتعطش للألوان في زمن الكآبة وللفن في زمن التفاهة وللجمال في زمن الإصطناع والذكاء الإصطناعي والبوتوكس والفيلر!

Print Friendly, PDF & Email
أغنار عواضة

كاتبة وشاعرة لبنانية

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  شي جين بينج إلى ولاية ثالثة.. سباق المكانة الصينية