تلعثم جو بايدن عدّة مرات خلال المناظرة، فيما تمكن ترامب من بناء خطابه بطريقة متقنة لم تخلُ من طابع استعراضي يطبع مجمل حياته السياسية، منذ ما قبل أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة عام 2017.
وكما كان منتظراً، استحوذت القضايا الداخلية كالاقتصاد والتضخم وفرص العمل والتعافي من جائحة كورونا والاجهاض والصحة والأدوية والهجرة حوالي نصف مدة المناظرة تقريباً (42 دقيقة من أصل 90 دقيقة)، فيما تطرق الرئيسان إلى مواضيع السياسة الخارجية في الوقت المتبقي، فشمل الحديث الحرب الروسية – الأوكرانية وتمويل حلف “الناتو” والحرب الإسرائيلية على غزة.
وفي استطلاع رأي أولي flash poll نشرته شبكة “سي. أن. أن.” فور انتهاء المناظرة مباشرةً، رأى 67 % من مشاهدي المناظرة أنّ ترامب تفوق فيها، فيما أعطى 33 % من المشاهدين أصواتهم للرئيس بايدن. وفور انتهاء المناظرة، كتب كبير مراسلي “سي. أن. أن.” في البيت الأبيض، ستيفن كولينسن، أنّه إذا تمكّن بايدن من الفوز في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر القادم، فإنّ التاريخ سيكتب أنّ عشر دقائق فقط كانت كافية لإحداث هذا الأمر، واصفاً ما حدث بأنه “كارثة سياسية”.
فريدمان: شاهدت.. وبكيت!
الكاتب الأميركي المخضرم توماس فريدمان في مقالة له في صحيفة “نيويورك تايمز”، بعنوان “جو بايدن رجل جيد ورئيس جيد. يجب عليه الخروج من السباق”، قال إنه شاهد المناظرة وجعلته يبكي “ولا أستطيع أن أتذكر لحظة مفجعة أكثر من تلك في كل الحملات الرئاسية الأميركية التي شاهدتها في حياتي”، ودعا بايدن إلى اعلان عدم ترشحه للانتخابات وقال: “من أجل منح أميركا فرصة ممكنة لردع تهديد ترامب، يتعين على بايدن أن يعلن عدم ترشحه للانتخابات.. ولو كان قادة الحزب الجمهوري يتمتعون بذرة من النزاهة، كانوا ليطالبون بالمثل (انسحاب ترامب)، لكنه لن يفعل لأنهم لا يفعلون ذلك”، وأشار إلى أنه إذا أرادت نائبة الرئيس كامالا هاريس المنافسة، “يجب عليها ذلك، لكن الناخبين يستحقون عملية مفتوحة بحثاً عن مرشح رئاسي ديموقراطي”، وأخذ على بايدن وترامب أنه لم يسمع منهما عبارة واحدة خلال المناظرة عن الذكاء الإصطناعي “بينما نحن في فجر ثورة الذكاء الاصطناعي التي ستغيّر كل شيء”.
ورأى فريدمان أنّ ايجابية بايدن تكمن في أنّه خلّص الولايات المتحدة من عهد ثان لترامب (قبل أربع سنوات). وختم بالقول “إذا كان هناك وقت يحتاج فيه العالم إلى أميركا في أفضل حالاتها، ويقودها أفضل ما لديها، فهو الآن – لأن المخاطر والفرص العظيمة تلوح علينا الآن. كان من الممكن أن يكون جو بايدن الأصغر سناً هو ذلك القائد، لكن الزمن قد لحق به أخيراً. وكان ذلك واضحاً بشكل مؤلم ولا مفرّ منه يوم الخميس الماضي”.
وغرّد المعلق السياسي، كريستوفر سيليزيا، قائلاً “كانت هذه المناظرة بمثابة كارثة كاملة الأوصاف لبايدن. بدا كبيراً في السن. وتوالت إجاباته مراراً وتكراراً. كان من الصعب أن نفهم. كان يتوقف في منتصف الجملة وينتقل إلى شيء آخر”.
وكتبت صحيفة “الغادريان” البريطانية، أنّ أداء بايدن اتسمّ بالضعف مستشهدةً بصوت بايدن الذي كان مكتوماً منذ بدء المناظرة وتأخر في تأليف النصّ الكلامي. وتقول الصحيفة إنّه في إحدى المرّات، عندما هاجم ترامب التخفيضات الضريبية والدين الوطني، لم يكمل بايدن فكرته وانتقل إلى الحديث عن موضوع آخر قائلاً: لقد تغلبنا أخيراً على الرعاية الطبية! الملاحظة الثانية التي سجلّتها الصحيفة كانت في افتقاد ترامب لحقائق ومعلومات موثقة خاصةً عند تطرقه إلى قضايا حسّاسة كواقعة اقتحام الكونغرس.
بصرياً.. الرابح هو ترامب
أما صحيفة “الواشنطن بوست”، فقد قالت إنّ بايدن تعثر بشكل ملحوظ في بعض الأحيان وخاصةً عندما ألقى ردوده بصوت ضعيف وكلمات غامضة ونظرة تتسم بالارتباك في بعض الأحيان – وهو الأداء الذي أثار مخاوف فورية بين الديموقراطيين القلقين بشأن عمره وهشاشته بين العديد من الناخبين.
أما صحيفة “لوس أنجلس تايمز” فخلصت إلى الاستنتاج التالي: ربما تكون النتيجة النهائية هي أن هذه لا تعد مناظرة من الأساس كما قال ترامب نفسه سابقاً. وتضيف الصحيفة أنّ كلا المرشحين فشلا في الإجابة على الأسئلة، وبدلاً من ذلك انخرطا في نقاط حوار مربكة، بما في ذلك تبادل غريب حول قدراتهما في لعبة الغولف.
وأشارت شبكة NPR الإخبارية، إلى أنه إذا كان بعض الأشخاص الذين استمعوا إلى الراديو في عام 1960 اعتقدوا أن ريتشارد نيكسون فاز في المناظرة الرئاسية مع جون كينيدي، فربما يعتقد الأشخاص الذين قرأوا نص مناظرة الأمس أن الرئيس بايدن فاز بالمناظرة الرئاسية، مضيفةً أنّه ولو أنّ الانتخابات يمكن تحقيق الفوز فيها عبر النصوص المكتوبة transcripts، لكان تغلب ربما بايدن على منافسه ولكن لا يتم الفوز بالانتخابات عبر تلك النصوص لانّ المناظرات – حسب الصحيفة – سواء كانت عادلة أم لا، غالبًا ما تدور حول الجوانب البصرية، أي كيفية تقديم المرشحين لأنفسهم، والدفاع عن سجلاتهم، وصدّ الهجمات.
غزة وأوكرانيا
الجدير ذكره أن بايدن وترامب تبادلا الإهانات منذ الدقائق الأولى للمناظرة، في معرض حديثهما عن القضايا الداخلية المثيرة للجدل، وعندما تطرقا إلى السياسة الخارجية، قال بايدن، إنه قدم مقترحا لوقف حرب غزة، زاعما أن المقترح حظي بموافقة مجلس الأمن وإسرائيل، إلا أن حركة حماس هي من تعترض على تنفيذ المقترح. وأضاف أن مقترحه يتضمن ثلاث مراحل، أولها إطلاق سراح الرهائن الذين تحتجزهم حماس، ثم وقف إطلاق النار، يتبعه توقف تام للحرب التى تشنها إسرائيل، واتبع بايدن حديثه بقوله إن الولايات المتحدة تساعد إسرائيل بل و”تنقذها”، مؤكدا أنه لن يسمح ببقاء حماس فى الحكم بالقطاع، حيث سيتم التعامل معها كما تعاملت القوات الأميركية مع زعيم تنظيم “القاعدة” أسامة بن لادن.
وردّ دونالد ترامب بأن على أميركا السماح لإسرائيل بالاستمرار فى حربها للتخلص من حماس، واصفاً بايدن بالـ”ضعيف”، وشبّه خصمه بفلسطين، مدعيا أن بايدن ضعيف مثل دولة “فلسطين”. وقال “بايدن أصبح كالفلسطينيين.. وهو فلسطيني سيء”.
أما فيما يتعلق بحرب أوكرانيا، فقد هاجم ترامب بايدن قائلا إنه لولا ضعف الرئيس الأميركي لما غزا الرئيس الروسى فلاديمير بوتين أوكرانيا، وجدّد تعهده بأنه سينهي الحرب في أوكرانيا إذا أعيد انتخابه.
كما تطرق بايدن إلى القضية الأخيرة التى اتهم فيها خصمه السياسى ترامب بممارسة علاقة جنسية مع ممثلة إباحية تدعى دانيل ستورمز، ثم محاولة إسكاتها بإعطائها مبلغ من المال قبل انطلاق حملته الرئاسية فى عام 2016. وتساءل بايدن مستنكرا، “كيف تمارس الجنس مع ممثلة إباحية بينما زوجتك تعانى من آلام الحمل”؟
وعندما اقتربت المناظرة من نهايتها، تناول المرشحان السؤال الحساس حول العمر. وتذكر بايدن أنه كان في السابق أصغر رجل في السياسة، وانتقل للحديث عن إنجازاته كرئيس للتدليل على أنه قادر على أداء المهمة.
واستذكر ترامب الاختبارات المعرفية التي أجراها كرئيس وتحدى بايدن للقيام بنفس الشيء. ثم تحدث المرشحان عن صفاتهما البدنية والرياضية وتجادلا حول من لديه مهارات أفضل في لعبة الغولف. وأخيراً قال ترامب: “لنكن ناضجين”، فرد عليه بايدن: “أنت طفل”.
مرشح ديموقراطي بديل!
فعلياً، انتهت المناظرة الأولى فيما المناظرات الأخرى ستجرى تباعاً حتى موعد الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر من هذا العام.. ولو أنّ التقاليد الانتخابية المعمول بها في أميركا لا تستلزم عقد مناظرات متعددة، لأمكن القول أنّ مناظرة السابع والعشرين من حزيران/يونيو كانت الأولى والأخيرة.
ختاماً، لا بدّ من القول أنه فيما يسجّل العالم مؤشرات على انحدار القوة الأميركية المهيمنة، منذ عقدين على الأقل، فإنّ ترشح بايدن وترامب إلى سباق 2024 الرئاسي، هو مؤشر إضافي على تدهور مكانة الولايات المتحدة وضمور نظامها السياسي والانتخابي، فضحالة خطاب الرجلين وعدم تماسكهما الذهني (بالاخص بايدن) وتراجع لغتهما السياسية السليمة لا بدّ أن يُضاف كل ذلك إلى علامات انحدار الامبراطورية الأميركية. وفي هذا الصدد، لا نملك غير مراقبة الأوضاع السياسية والانتخابية من اليوم وحتى يحين موعد الاستحقاق الانتخابي، ونتحضّر لعودة ترامب إلى البيت الأبيض.. إلا إذا حدثت معجزة من نوع أن يختار الديموقراطيون بديلاً سريعاً يُحدث صدمة إيجابية في أوساط القاعدة الديموقراطية والفئات المترددة في الشارع الأميركي.