… وهكذا، بدا أنه تم تحييد التهديدات من جانب “حزب الله، ومع الممثل الرئيسي للاستخبارات السورية في لبنان، كما أوضحنا. ولكننا لم نكن مطمئنين كلياً.
بعد كل ذلك، فإن أولئك الذين اختطفوا موظفينا في أيلول عام 1985 والذين أطلقوا النار على أركاشا كاتكوف برصاصة في الرأس، ظلّوا في بيروت، وكانوا يجولون في الشوارع ذاتها التي كنا فيها.
لم تعد هناك حاجة إلى حراسة معززة، ولكن، مع ذلك، ظلّ معي عنصر من حرس الحدود بمدفع رشاش في يده دائماً، وفي استعداد قتالي تام.
النظام نفسه كان ينطبق على موظفي السفارة الآخرين الذين كانوا يذهبون إلى المدينة في مهمة رسمية. كانت هناك قاعدة إلزامية أخرى عند الخروج إلى المدينة: إحمل جهاز اتصال لاسلكي، إتّصل بالسفارة كل 15 دقيقة، وأبلغ عن عن مكان تواجدك.
تلقى جميع موظفي السفارة رقمياً مرمّزاً. رقمي على سبيل المثال كان “التاسع”. أما السفارة فكان رقمها “الثاني”. وتم تقسيم بيروت نفسها إلى مناطق بأرقام مرمّزة: كان الخط الفاصل بين الأجزاء المسيحية والمسلمة في المدينة يسمّى “الخندق”، والمدخل إلى بيروت على طول الطريق السريع الساحلي من الجنوب “الإستاد”… وما إلى ذلك.
كان الوضع هكذا: إذا ذهبتُ إلى المنطقة المسيحية، كان سائقي فيكتور غوبين يتصل بالسفارة بانتظام ، ويبلغ: “الثاني، الثاني… التبليغ من التاسع… نتجه نحو الخندق، كل شي على ما يرام… نبقى على اتصال …”. (أخذت رقم “التاسع” عمداً حتى لا يلفت الأنظار في القائمة العامة).
أما نظام الخروج من السفارة فكان يتحدد في الاجتماعات الصباحية، وكان يتوقف على الوضع في المدينة. إذا ما شعرنا بالريبة، كان يتم تقييد الخروج إلى المدينة، أما زوجاتنا فكنّا نسمح لهنّ فقط بالذهاب إلى أقرب محل بقالة (“دكان توفيق”). إذا بدأ إطلاق النار، كان يتم اغلاق المخرج بالكامل… وإذا لم تكن هناك مخاطر واضحة كنا “نفتح المدينة” من دون قيود.
… في صيف العام 1987، ذهبتُ إلى موسكو في إجازة. منذ تعييني في بيروت أمرني شيفرنادزه بأن آتي إليه بتقرير شخصي خلال أية زيارة لموسكو. صعدتُ إلى الطابق السابع (في وزارة الخارجية: المترجم) للتشاور مع سكرتير الوزير آنذاك اي. س. ايفانوف.
طلب منّي إيغور سيرغيفيتش الانتظار، ووعد بأنه عندما يتراكم عددٌ كافٍ من الطلبات، سيبلغ الوزير بوجودي.
بصراحة، أعلم من خبرتي في وزارة الخارجية حجم أعباء العمل عند الوزير، وواقعياً، لم أعوّل كثيراً على استقبال شيفرنادزه لي، وذهبت إلى الطابق السابع على سبيل الاحتياط. ومع ذلك، قال إيغور سيرغيفيتش، الذي عاد بعد تقديم تقريره، إن الوزير سيستقبلني، ولكن ليس قبل الساعة التاسعة مساء.
عند الساعة العاشرة، دخلت مكتب شيفرنادزه. بدا الوزير متعباً، لكنه طلبَ أن أخبره بما يحدث في لبنان، وكيف أعمل شخصياً. بدأتُ أُخبر، وقررت في قرارة نفسي رفع تقرير مكتوب بمجرد أن شعرت بفقدان الاهتمام في عيني الوزير.
استمع شيفرنادزه بانتباه، ومن دون مقاطعة ، ثم قال: “كما تعلمون، سنعقد اجتماعاً غداً عند الساعة 11:00. تعال، وأخبر بما قلتَه لي”… بخيبة أمل، عدت إلى المنزل: “يجب أن أنام!” تطلب الأمر السهر ليلتين لتقديم التقدير… ثم ذهبت إلى السرير، ولكنني لم أستطع النوم.
ولكن، كما في اغنية فيسوتسكي “من الضروري يا فيديا، من الضروري”. ذهبتُ إلى سمولينسك، حيث وُضع خطابي في نهاية جدول أعمال اجتماع الزملاء. أثناء هذا الوقت، وبعدما استمعت إلى الطريقة التي يتحدَّث بها الآخرون، شعرتُ بالراحة، وعندما أعطوني الكلمة، بدأت في تقديم التقرير بهدوء وسلاسة.
حتى بدلاً من الدقائق العشرين المحددة، تحدثتُ لمدة ساعة تقريباً، بالطبع، مع تقديم الإجابات على الأسئلة والمتاعب التي نواجهها. واحدٌ منها، ربما، كان السؤال الأكثر صعوبة. لقد طرحه الوزير نفسه: “ما الذي يجب فعله في ما يتعلق بأمن موظفي السفارة؟”… الحمد لله، كانت لديّ بعض الأفكار الجاهزة.
قلت على الفور إن السفارة تحتاج إلى سيارة “مرسيدس” مصفّحة في حال حدوث أمر طارئ في كافة أنحاء المدينة في سياق الأعمال العدائية. هذا أمرٌ ضروري ليس لتنقلات السفير فحسب، ولكن أيضاً، إذا لزم الأمر، من أجل الإخلاء الطارئ للموظفين الذين قد يعلقون في المدينة وسط إطلاق النار.
ثانياً، من الضروري بناء ملجأ رئيسي للحماية من القذائف، بحيث يمكن لموظفي السفارة وأفراد أسرهم أن يحتموا فيه أثناء القصف المدفعي للمناطق السكنية.
الطابق السفلي في المبنى القديم، الذي بُني في أوائل القرن العشرين،لا يمكن الاعتماد عليه، وهو ضيّق، وبناء ملجأ ضد القذائف سيمكّننا من تجنب العمليات الخطرة لإجلاء ناسنا على وجه الاستعجال إلى الاتحاد السوفياتي في حال تفاقم الوضع في البلد مرّة أخرى.
ثالثاً، يجب أن ننطلق من حقيقة أن الحرب في لبنان ستستمر إلى أجل غير مسمى، ما يعني أنه يجب تحسين وضع السفارة والمؤسسات السوفياتية الأخرى، بحيث لا يبقى في بيروت سوى العناصر التي تتطلب وجودها ضرورة موضوعية.
إستمع إليّ شيفرنادزه بانتباه، واقترح أن أقدم مقترحاتي ضمن برقية خاصة من السفارة. لدى عودتي إلى بيروت، توافقت مع يو. ن. بيرفيلييف على شكل برقية، وتم قبول مقترحاتنا بسرعة كبيرة.
في السفارت ظهرت سيارة “مرسيدس” مدرعة طُلبت خصيصاً من ألمانيا الغربية، فيما تم تخصيص 150 ألف دولار لبناء ملجأ ضد القذائف (للمقارنة: تم تخصيص حوالي نصف مليون من “الأخضر” الأميركي لسفارتنا في أفغانستان لبناء ملجأ مماثل).
بعد الانتهاء من أعمال البناء، شعرنا بأننا أكثر هدوءاً: لم يعد هناك وجود لذلك الطابق السفلي في سفارتنا، والذي إذا تعرض للضرب بشكل مباشر، فسوف ينهار حتماً، ويُدفن تحت أنقاضه كل من يتواجد هناك في تلك اللحظة.
في وقت لاحق، كان ملجأنا الجديد مفيداً جداً لمرتين: لقد لجأنا إليه عندما انفجرت قذائف أُطلقت من القطاع المسيحي بالقرب من السفارة، ومن ثمَّ في حديقة السفارة.
الأمر الأصعب كان مسألة تحسين وضع المؤسسات السوفياتية. الحرب هي الحرب، ولكن أياً من الذين أرسلوا إلى لبنان لم يرغب في مغادرة بيروت.
كانت بعض الحالات عبثية للغاية. على سبيل المثال، بقيَت (في بيروت) امرأة جاءت في مهمة خصيصاً من موسكو لتدريس اللغة الروسية في المركز الثقافي السوفياتي. وعلى مر السنين، لم يخطر في بالِ أحدٍ أن يطرح السؤال التالي: ماذا تفعل؟ ماذا تفعل حقاً؟
في ظروف الحرب التي كانت تدور في البلاد آنذاك، من هو اللبناني الذي ستخطر في باله فكرة الذهاب إلى المركز الثقافي السوفياتي في المساء، وتعلم اللغة الروسية هناك؟
الأمر ذاته ينطبق على البعثة التجارية. جميع الموانئ اللبنانية لا تعمل رسمياً، والمطار مغلق، والتبادل التجاري بين الاتحاد السوفياتي ولبنان صفر، ولكنّ موظفي البعثة التجارية ظلوا في كامل طاقتهم، كما في الأيام الخوالي، أي كما لو أن الحرب في لبنان لم تندلع، أو كما لو أن العلاقات التجارية والاقتصادية للاتحاد السوفيتي مع هذا البلد لا تزال على نفس المستوى!
في ما يتعلق باستقلالية الصحافيين، اضطررت حتى الى التلاسن في قسم العلاقات السياسة الخارجية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي.
في بيروت، في ذلك الوقت، بالإضافة إلى مكاتب “تاس” و”نوفوستي” المعتمدة في لبنان، كانت تعمل المكاتب الإقليمية لكل من “برافدا” و”إيزفستيا” ومحطة التلفزيون والإذاعة الحكومية.
ماذا حصل جرّاء كل ذلك؟ نحن “نغلق المدينة” أمام جميع موظفي السفارة والبعثة التجارية و”نوفوستي” و”تاس” بسبب اطلاق النار في كل مكان في المدينة، في حين أن أحد المراسلين الإقليميين، وبتعليمات من مجلس تحريره، يستقل السيارة ويذهب إلى دمشق، ومن هناك يسافر إلى القاهرة.
كما هو معلوم، فإنّ المراسل الإقليمي يجب أن يتنقل في كافة أنحاء المنطقة، ولهذا اقترحت نقل هؤلاء المراسلين الإقليميين إلى أية عاصمة إقليمية أخرى، على سبيل المثال، إلى القاهرة نفسها، بحيث تكون لديهم حرية الحركة الكاملة. كيف لا يمكن أن يحظى هذه “البدعة” الصحافيون أنفسهم، وإدارة مكاتب التحرير التابعة لهم، وقسم المعلومات السياسية الخارجية الحالي للجنة المركزية للحزب الشيوعي؟! لكن الجميع أراد أن يعيش في بيروت!
لقد رضخوا فقط، حين عرضتُ رفع المسؤولية الرسمية للسفارة عن سلامة هؤلاء الصحافيين المسافرين، وجعلها على مسؤولية هيئة التحرير، أو، لنقل، تحت قيادة الادارة السياسية للاعلام الخارجي التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي.