مع التّبسيط والايجاز: عالم الرّوح عنده هو العالم الرّوحيّ الأعلى، وإمامُه أو سيّدُه أو رمزُه الأعلى هو بدوره روح القُدُس (Le Saint Esprit) المسمّى عادةً بأخي الوحيِ جبريل.. أو “بالرّوحِ الأمين” كما يسمّيه القرآن أيضاً على الطّريقة العربيّة. أمّا عالم الأرواح فهو برزخٌ بين عوالمنا المادّيّة وبين ذاك العالم الجبروتيّ كما يُعبّر عن ذلك أهلُ العرفان: إنّه العالم الذي تصعد إليه، أو تعود إليه، الأغلبيّة السّاحقة من الأرواح بعد الانتقال من هذه الدّنيا (مع بعض الاستثناءات التّقمّصيّة وما إلى ذلك، ولا مجال هنا للتّفصيل والنّقد والنّقاش).
من العجيب حقّاً هذا التّطابق شبه الكلّيّ بين نظرة الصّوفيّين إلى أبعاد الوجود وعوالمه.. مع اختلاف خلفيّاتهم الدّينيّة والمذهبيّة والثّقافيّة. برأيي، ومن خلال تجربتي المتواضعة: إنّ هؤلاء تحصلُ معهم “المشاهدات” نفسُها.. كيف لا والمصدر واحدٌ، وهو في باطنه “أَحَدٌ”؟ (راجع كتاب المصلّي في هذا السّياق:Du monde des esprits au monde de l’Esprit, Éditions du Rocher, 2002).
تأثّرَ Jean Prieur خلال شبابه بفكر أحد الفلاسفة الرّوحيّين الفرنسيّين الكبار في ما يخصّ النّصف الأوّل من القرن العشرين: أقصد الكاهن الكاثوليكيّ، والفيلسوف، وعالم الحفريّات، بيار تيلارد دي شاردان (ت. ١٩٥٥ م). أهميّة فكر دي شاردان في ذلك العصر كانت متمحورة بالأخصّ حول:
(١) محاولته الجدّيّة للتّقريب بين الإيمان وبين العلم بشكل عامّ؛
(٢) عمله، في السّياق عينه عموماً، على نظرة تطوّريّة للبعد الرّوحيّ في الإنسان (متأثّراً بأعمال داروين والدّراوِنة طبعاً)؛
(٣) جهده الكبير في سبيل إعادة النّظر في الرّؤية الإثنَيْنيّة المبسِّطة للعلاقة ما بين المادّة والرّوح.
تميل أعمال دي شاردان الثّيولوجيّة والفلسفيّة إلى نظرة روحيّة واحِدِيّة (راجع ما سبق حول وحدة الوجود ومدارسها وتفرّعاتها). وقد تأثّر به المُصلّي الفرنسيّ بشكل أكيد. غير أنّ اللّقاء الأهمّ في تلك المراحل الأولى من الشّباب هو، على ما يبدو جليّاً من كتاباته وسيرته وتأمّلاته وأفكاره: لقاؤه بالامرأة الفرنسيّة العجيبة ذات الأصول النّبيلة أيضاً.. مدام مارسيل دي جوفنيل (ت. ١٩٧١ م). اللّقاء مع هذه الأمّ الشّاهدة على “العالم الآخر” لا يُشبه أيّ لقاء آخر.
إنّها الأمّ التي خسرت ولداً لها وهو في عمر الخامسة عشرة، وهو رولاند دي جوفنيل (ت. ١٩٤٦ م). قصّة مارسيل مع ابنها المتوفّى شكّلت عند الكثيرين، وفي عدد من الأوساط الفلسفيّة والرّوحانيّة والثّيولوجيّة الفرنسيّة المؤثِّرة: شكّلت أحد القرائن، بل أحد الأدلّة القويّة جدّاً، على وجود عالم الأرواح (أو “عالم ما-بعد”، أو الملكوت، أو البرزخ إلخ.).
إنّها قصّةٌ فريدة، وهي في الوقت عينه: عجيبةٌ، جميلةٌ، رومانسيّةٌ، شاعريّةٌ.. وشديدةُ العمق والدّلالة. تحكي أمّ رولاند أنّ ابنَها بدأ يتواصل معها، بعد وفاته، من خلال وسائل وتجلّيات و”علامات” متعدّدة. أهمّها: الكتابة الأتوماتيكيّة، إذ بدأت تُحسّ، في أوقات معيّنة ومتكرّرة، أنّ هناك قوّة غير مألوفة تدفعها إلى الامساك بقلم.. وإلى الكتابة.
كتابة ماذا؟ كتابة خطاب ذي مضمون منطقيّ وعقلانيّ، ولكن، ليس خطابها هي. ليس خطاب أمّ رولاند: وإنّما هو خطاب ابنها رولاند إليها من “عالم ما-بعد”! إنّه خطاب رولاند نفسه ولكنّه يتجلّى من خلال الكتابة الأوتوماتيكيّة. حصل مع السّيدة دي جوفنيل ما حصل ويحصل مع نساء ورجال كثيرين على ما يبيّنه البحث في هذه المواضيع: تواصلَت معها “روحُ” شخصٍ منتقلٍ من هذا العالم.. ومن خلال الكتابة الأوتوماتيكيّة (التي لها قواعدها طبعاً عند القوم، ولها شروطٌ معيّنة للتّأكّد من صحّة مصدرها، ولا أعلم لجان بيور مهنةً أهمّ من هذه المهنة “التّرجمانيّة” خلال حياته. وهو قد اشتهر في فرنسا بسبب هذه “المهنة” أصلاً، وفي الأعمّ الأغلب).
لم يكتفِ رولاند على ما يبدو بذلك “الكلام” الذي ولّد أروع التّعابير والجمل الأدبيّة الرّوحانيّة المتعالِية.. بل أراد أن يُقيم الدّليل على حقيقة تواصله مع أمّه من عالم الأرواح. “قال” رولاند لأمّه إنّه “مأمورٌ” بأن يقوم بذلك.. لكي تكون تذكرةً للفرنسيّين وللمادّيّين وللنّاس، ولكي تكون بُشرى للعالَمين.
هنا، دخل المُصلّي-التّرجمان على الخطّ، ليسطّر مع مارسيل ورولاند أروع القصص الرّوحيّة والصّوفيّة والرّوحانيّة المعاصرة ربّما، في فرنسا وفي العالم. دخل المُصليّ على الخطّ ليفهم القضيّة أوّلاً، ثمّ ليتأكّد من صحّة وحقيقة هذه الظّاهرة الفرنسيّة المستجدّة في بلد العلمانيّة واليَعاقِبة والماركسيّة.. وفي بلد جان بول سارتر والوجوديّة المُلحِدة!
استجلبَ Jean Prieur الدّليل من رولاند، فأجابه هذا الأخير – خصوصاً من خلال أمّه – على شكل وقائع دامغة لا يُمكن الشكّ بها حسب المُصلّي وزملائه. أعطاه مثلاً: معلومات دقيقة معيّنة عن حياته الشّخصيّة لا يمكن له ولا لأمّه أن يعلما بها.. أو معلوماتٍ بيّناتٍ صادقاتٍ دامغاتٍ عن أحداث تحصل بشكل متزامن في أماكن مختلفة.. وما إلى ذلك.
عرف جان بريور أنّه أمام “تواصلٍ” لا رَيب فيه مع العالَم المَوعود، أي مع عالَم الأرواح ذي الشُّهود. فوثّق القضيّة وعرضها على الفيلسوف الوجوديّ المسيحيّ الكبير غابرييل مارسيل. كانت الأدلّة دامغة إلى درجة اقتنعَ بها رجلٌ فيلسوفٌ من هذا العيار.
وانطلقت الموجة الرّوحانيّة الفرنسيّة الغربيّة الجديدة الكُبرى، فقلبتْ حياة المُصلّي العجيب مجدّداً. وولّدت أعمالاً رائعة، بل وعظيمة الرّوعة والجمال.. والمعنى. أهمّها، من جهة السّيّدة مارسيل دي جوفنيل:
- Au Diapason du Ciel, Introduction de Jean Prieur, 1981, réimp. 1987 et 1994 (“messages” d’octobre 1946 au 23 septembre 1947);
- Quand les sources chantent, 1978, réimp. 1986, 1994 (“messages” de septembre 1947 à décembre 1948);
- Au seuil du Royaume, Présentation de Jean Prieur, 1980, réimp. 1990 (messages de janvier 1949 à décembre 1953).
في هذه الأعمال وغيرها: تعرض السّيّدة مارسيل، بمساعدة جان بريور غالباً، “رسائل” رولاند ووصاياه الرّائعة وفائقة الأهميّة “من العالم الآخر” (..أو هو العالم الحقيقيّ الوحيد ولكنّ أكثر النّاس لا يشعرون).
أمّا من جهة Jean Prieur، فقد ولّد هذا التّعاون وغيره مّما يشبهه مثالاً ومضموناً وشكلاً: ولّد أعمالاً لا أعرف كيف يُمكن وصف روعتِها صراحةً. فمن ناحية قضيّة رولاند تحديداً، وبالإضافة إلى ما سبق، وبالإضافة إلى رسم جان بريور الجميل لأشهر لوحة تُصوّر وجه هذا الصّبيّ العجيب:
- Les tablettes d’or, Autour de Marcelle et Roland de Jouvenel, Paris, Lanore, 1979.
إنّه كتاب الألواح الذّهبيّة، حيث يحكي بريور قصّة هذا الصّبيّ وأمّه، ويحكي قصّته هو معهُما، كما ويفصّل الأدلّة في هذه القضيّة العجيبة.. ويتفكّر في معانيها والرّسائل من ورائها. لماذا الألواح الذّهبيّة تحديداً؟ لقول رولاند لأمّه في إحدى رسائله (وردت في مدخل طبعة عام ٢٠١١):
يوماً ما، إذا لم أعد قادراً على التّواصل معكِ،
فسوف أورِثُ لوحاتي الذّهبيّة شخصاً آخر. (رولاند، ١٥ نوفمبر ١٩٥١).
لقد ورث جان بريور بالتّأكيد هذه اللّوحات الذّهبيّة، وهذه الخمريّات الرّوحيّة، وهذه الجواهر الإلهيّة، وهذه الأناشيد المَلَكوتيّة، وهذه الحَوليّات الرّوحانيّة.. وورث جزءاً كبيراً من جهد الدّفاع عن المدرسة الصّوفيّة-الرّوحانيّة والتّرويج لأفكارها في فرنسا وحول العالم، ومن جهد الدّفاع عن الأدلّة على حقيقة “العالم الآخر” وحقيقة الحياة الأبديّة للرّوح. وقد أدّى ذلك في ما أدّى إليه إلى نشره كتاباً آخر، من أروع وأجمل وأعجب ما يُمكن أن تقرأه، فرنسيّاً وصوفيّاً:
- Les témoins de l’invisible,Fayard, 1972.
إنّه كتاب: شهود (العالم) غير المرئيّ. إنّه حقّاً لكتابُ الشّهود، واليومِ الموعود، والبرزخِ ذي الحُدود. إنّه ببساطة: كتابٌ عظيم، وشديد الأهمّيّة، وعميق المعاني والآثار.. آمنتَ بوجود عالم الأرواح وعوالم الغيب، أم لم تؤمن بذلك أبدا. عظمته وأهمّيّته متعدّدتا الجوانب:
أوّلاً؛ من حيث السّرد لا من حيث ترتيب الأهمّيّة: فقد قدّم له غابرييل مارسيل نفسه، وما هذا بالأمر البسيط أو العابر.
ثانياً؛ يبدأ الكتاب بسرد قصص وشهادات (وبعض الأدلّة على “حقيقة”) أهمّ “الشّهود”، خصوصاً في العالم الغربيّ المسيحيّ الثّقافة (منهم مارسيل دي جوفنيل وابنها طبعاً، ومنهم أيضاً آخرون عديدون: كالضّابط الفرنسيّ الشّاب Pierre Monnier المتوفّى على إحدى جبهات قتال الحرب العالميّة الأولى عام ١٩١٥.. وسرديّة تواصله مع أمّه سيسيل. ومن هؤلاء أيضاً شهود فرنسيّون وأوروبيّون-قارّيّون وآنجلو-ساكسونيّون آخرون معروفون في هذه الأوساط).
ثالثاً؛ يعرض بريور فرضيّة عالم الرّوح وعالم الأرواح.. ويدافع عنها، مع البقاء قدر الإمكان ضمن سياق مسيحيّ، ومع استخدام لأساليب أدبيّة شديدة الرّوعة حيث أمكنه ذلك. أدبيّاً، أعتقد أنّ الكتاب فريدٌ صراحة، خصوصاً عند وصف العوالم والأبعاد.. وسكّانها.
رابعاً؛ يفنّد يوحنّا المُصلّي آراء المعارضين والمخالفين وينقدها و/أو يدحضُها حيثُ أمكن. خامساً: يحاول أن يُقرّب بين أهمّ أعمدة النّظريّة الرّوحانيّة وأهمّ المكتشفات العلميّة الحديثة (راجع ما سبق حول تأثّره بدي شاردان). سادساً: يضع هذه النّظريّة في سياقها المناسب ضمن تاريخ الفكر والفلسفة الإنسانيّين. سابعاً: يبدأ، كما ألمَحنا، ملحمةً أدبيّةً بكلّ ما للكلمة من معنى، يصف من خلالها “ممالك الظّاهر الأربع”.. ثمّ “ممالك الباطن الثّلاث”، لينتهيَ به الأمرُ في الخلاصة إلى ممالكَ سبعٍ يُبنى عليها تجلّي الذّات الإلهيّة بنفسها على نفسها. أي: تُبنى عليها مظاهر ظهور “الإله الأحد الأزليّ”.. على نفسه (وعلى موجوداته بطبيعة الحال، وهل في الوجود “غيرُه” أصلاً؟ تذكّر دائماً نظريّة أو عقيدة الصّوفيّة: وحدة الوجود والموجود.. ففي باطن الباطن، لا وجودَ أصلاً لغير “الله” أو “الوجود الحقيقيّ الأزليّ”).
قصّة آلِ دي جوفنيل وجان بريور وغابرييل مارسيل وأصدقائهم في هذا الإطار.. عبارة عن ملحمة روحيّة وروحانيّة. نترك القارئ العزيز مع تشويق استكشافها واكتشافها، آملين أن نعودَ إلى تفاصيلها وتفاصيل أعمال المُصلّي الكثيرة في وقت قريب (إن شاء “الله”.. وهل نشاء إلّا أن “يشاء”؟).
ولكن، لنتذكّر الأعمدة الأهمّ للطّرح الكامن وراء هذه الملحمة، ووراء هذه الصّرخة الموجّهة نحو الإنسان المُعاصر ونحو الفلسفات المادّيّة المُعاصرة على اختلافها:
- ليس “الظّاهر” لحواسّنا ولذهننا هو كلّ الموجود؛
- حياة الرّوح الإنسانيّة خالدة في المبدأ (إلّا ضمن بعض الاستثناءات)؛
- عالم الأرواح حقيقة وواقع، وأهله أقرب إلينا ممّا نتوهّم؛
- التّواصل مع هذا الأخير ممكن لمن “أُذن” له؛
- عالم الرّوح موجود أيضاً، وهو يعمل بشكل مستمرّ على “التّواصل” بين عوالم الألوهة وبين العوالم الدّنيا، ومنها عوالم الأرواح والمادّة؛
- البُعدُ الرّوحيّ في الإنسان هو البُعد الأهمّ والأكثر حقيقةً..
وصولاً إلى أنّ المحبّة سرٌّ عظيمٌ من أسرار الوجود. وأنّ لأعمالِنا الواعية كلّها عواقب قد تكون من النّوع الأبديّ.. فانتبهْ يا أيّها الإنسان!
فَمَن عمِلَ صالحاً فإنّما يعملُ لنَفسِه، ومن يُسيءُ فعلَيَها لا على غيرِها.. و”لا تزِرُ وازِرةٌ وِزرَ أُخرى”. وكلُّ شيءٍ وُجد أو تواجَد، بما فيه الشّرّ والمعاناة، فإنّما وُجدَ أو تواجَدَ لسَبَبٍ ولقَدَرٍ ولحِكْمةٍ من النّوع الأبديّ أيضاً.. وما “الوجودُ” بظلّامٍ للعَبيد!
أمّي، تَخَلّصيْ من نفسِك، كما تتخلّصُ الزّهرةُ من بتلاتِها فلا تُبقي إلّا كأسَها.
التّواصلُ بين الرّوحِ وبين اللهِ لا يُمكنُ أن يتحقّقَ إلّا من خلال القلب. (رولاند، ٢٠ مايو ١٩٦٠).
حقّاً، يستحقّ هذا الحديثُ وأهلُهُ عودةً إلى صرخة حبيبِ الأرواح، وريحانِها والرّاح، السّهرورديّ العاشق المقتول المرتاح، وأخي الاشراق ذي الصّباح:
أبداً تَحنُّ إِلَيكُمُ الأرواحُ
وَوِصالُكُم رَيحانُها وَالرّاحُ
وَقُلوبُ أهلِ وِدادكمْ تَشتاقُكُمْ
وَإِلى لَذيذِ لقائكمْ.. تَرتاحُ!
أداء بشّار زرقان: