“صوت الشعب”.. فيها تدوزنت أوتار حنجرتي

"الإعلام المهيمن والتجارب المغايرة".. هو عنوان لقاء إختارته إذاعة "صوت الشعب"، لمناسبة عيدها السادس والثلاثين، وتخللته مداخلات لزملاء سابقين في الإذاعة، أطلوا بأسئلتهم وهواجسهم وتجاربهم.. ومحبتهم المستمرة للصوت الأول الذي ما زالوا ينتمون إليه.

أكثر من سؤالٍ إشكالي يطرح نفسه على هذا العنوان: ماذا يعني الإعلام المهيمن؟ وكيف يُهيمن الإعلام يا ترى؟ ما هي مُحرّكات هيمنته؟ وهل باستطاعة كلّ إعلامٍ وأيّ إعلامٍ أن يهيمن؟ وهل يهيمن الإعلام عندما يطغى المحتوى الذي يقدّمه في لحظةٍ تاريخيّةٍ معيّنة (الإعلام الاقتصادي؟ الترفيهي؟ الحزبي؟ الحربي؟..)، أم عندما يُصبح قادراً على إدارة الرأي العامّ وتوجيهه والتحكّم به؟ وهل الإعلام هو الذي يُهيمن، أم القائمون عليه؟ وهل من هيمنةٍ إعلاميّة من دون وجود هيمناتٍ أخرى (سياسيّة، اقتصاديّة، ماليّة، إيديولوجيّة، ثقافيّة، تكنولوجيّة،..إلخ)؟ وهل كان الإعلام يوماً غير مهيمن؟.. وهل.. وهل؟

كلُّ هذه الأسئلة تفتح مجالاً غير محدود من الإجابات. وكلُّ الإجابات يمكن أن تكون صحيحة. أو لنقلْ، صحيحة بنسبٍ مختلفة. هناك جملة يُردّدها الأطباء في ساعات الانتظار الصعبة لنجاة مرضاهم: “الأمر الوحيد الأكيد أنْ لا شيء أكيداً في عالم الطبّ”. وأسرق جملتهم لكي أُسقِطها على عالمنا: “الأمر الوحيد الصحيح أنْ ليس هناك “صحّ” أو “خطأ” في مهنة الصحافة والإعلام”. هناك الجيّد. الأقلّ جودة. الأكثر جودة. السيّء. المُغرِض. الّلاأخلاقي. الّلاإنساني. الفئوي. الاستعراضي.. إلخ.

عندما نضع وسائلَ الإعلام على مشرحة العِلم والبحث العلمي، ندرك أنّ الإعلام ليس أكثر من لعبة. لها قواعدها ومبادئها وشروطها وضوابطها ومعادلاتها وأولويّاتها. كلّها خيوطٌ تتشابك بشكلٍ عنكبوتي. وبين هذه الخيوط يجب التنقيب عن المُغفَل أو المكبوت أو المهمّش. أي، يجب ألاّ نتبع، دوماً، صيغة عالِمنا الشهير هارولد لاسويل “مَن، يقول ماذا، لمَن، بأيّ وسيلة، وطلباً لأيّ تأثير؟”. بل، يتوجّب أن نبحث عمّا تخفيه هذه الخيوط من قضايا مُستبعَدة عن الأولويّات. أولويّات اللعبة. ولا بدّ من النظر في “مَن يسكت، عن ماذا، ولماذا؟”. بخاصّة، أنّ القضايا المسكوت عنها في الإعلام صار دورها وتأثيرها يتجاوز دورَ المُفصَح عنه وتأثيره! وهل من أسلوبٍ أفظع من هذا الأسلوب المتّبَع في وسائل الإعلام؟

يتجلّى مكمنُ هيمنة الإعلام في الأدوار التي تمارسها وسائله وقنواته ومنصّاته. أدوار، قد تصل، أحياناً، إلى مراحل خطيرة للغاية. وتبدأ الهيمنة الإعلاميّة، برأيي المتواضع، من نقطةٍ مركزيّة. أي، من قدرة الإعلام وبراعته في صناعة القبول لدى الجمهور المتلقّي. وتتضاعف الأضرار، عندما لا تلتزم الوسائل الإعلاميّة بالحدّ الأدنى من المستوى الأخلاقي في عرض الحقائق والدفاع عنها.

وتزداد براعةُ “هذا الصنف من الإعلام”، كلّما كان باستطاعته أن ينجح في صرف أنظار الناس عن صميم المشكلات التي يعيشونها ويعانون من وجودها في حياتهم. وكلّما كان باستطاعته أن ينجح في اختيار نوع المعلومات الواجب تعميمُها. وطمس الحقائق الواجب إخفاؤُها. واختلاق البدائل وتزيينها في أعين المتلقّي بهدف إقناعه بما يريد. وتغيير قناعاته على هذا الأساس. وهل من قمعٍ أفظع من هذا القمع؟

أعتقد بقوّة أنّ عندنا في لبنان صحافيّين أكفّاء جدّاً. لكنّ مشكلتنا المركزيّة هي في القائمين على مؤسّساتنا الإعلاميّة. في أصحابها ومالكيها الذين يُشدّدون على المبدأ القائل: “إذا كانت هناك دماء. ومصائب. وخسائر. وفضائح. فالخبر رئيسي”. وأنا واحدة من هؤلاء الصحافيّين الذين ترعرعوا على هذا المبدأ. وممّن دخلوا إلى عالم المهنة من الشبّاك وليس من الباب

يهيمن الإعلام، إذاً، عندما يتحوّل من وسيلةٍ إنسانيّة وحضاريّة للتواصل والمعرفة، إلى لعبةٍ تُستخدَم لأغراضٍ مُصمَّمة مسبقاً. فيُختزَل، إذّاك، مفهوم حقّ الاتصال؛ من حقّ الفرد في الاتصال والتواصل. إلى حقّ ممارسة ضبط حريّة الفرد ومصادرة رأيه. وأكثر. عندما يصبح الإعلام الأداة المركزيّة لتزييف الوعي الجمعي من خلال خلق عناصر الثقافة المزعومة المشتركة والمُقنَّنة التي تُسهّل تحكّم السلطة أو أجهزتها الضبطيّة (مثل أحزاب السلطة عندنا). وتبثّ، بالمقابل، ثقافة الرعب والاغتراب والثقافة السالبة لحريّة الفرد.

الإعلام المهيمن في أيّامنا هذه، هو ذاك الذي يُسهّل اغتصاب الشخصيّة المستقلّة للمتلقّي. وإحلال شخصيّةٍ مكانها قابلة للانصياع. مستسلمة. غير معارِضة. متراضية مع متطلّبات السلطة وشروط التعايش ضمن الجماعة أو.. القطيع. نعم. وسائل الإعلام في دولنا البائسة (ولبنان يحتلّ طبعاً رأس قائمة هذه الدول) تمارس قوّةً قسريّة غير مرئيّة لفرض حالة الإذعان والقبول وتعميم ثقافةٍ قطيعيّة. فهل هناك أفظع من هذه الهيمنة؟

على الأرجح، لا يعرف صحافيّونا، وهم يتعاملون مع مستوياتٍ غير طبيعيّة من الضغوطات في حياتهم اليوميّة، أنّهم يؤدّون هذه الأدوار. وإذا سألناهم، مثلاً، “كيف تفهمون الإعلام المهيمن؟”. قد يرتبكون في الإجابة. وربّما سيقول بعضهم: “إنّه الإعلام الرقمي والسوشيل ميديا والذكاء الاصطناعي الذي يُحرّك التطبيقات..”. وربّما سيقولون كذلك: “إنّه إعلام الأحزاب المسيطرة”. أو “إعلام الرأسمال والشركات العملاقة” و.. أشياء أخرى، قد لا يمتّ معظمها للواقع الإعلامي بصِلة.

فالصحافيّون لا يملكون سوى القليل من الوقت والفرص لفحص أدوارهم كمحقّقين ومتقصّين. ويمكننا النقاش طويلاً، أيضاً، حول التفاوت في كيفيّة عمل هذا الصحافي أو ذاك. وحول مستوى أداء هذا الصحافي أو ذاك. وأعتقد بقوّة أنّ عندنا في لبنان صحافيّين أكفّاء جدّاً. لكنّ مشكلتنا المركزيّة هي في القائمين على مؤسّساتنا الإعلاميّة. في أصحابها ومالكيها الذين يُشدّدون على المبدأ القائل: “إذا كانت هناك دماء. ومصائب. وخسائر. وفضائح. فالخبر رئيسي. والصحافي مهنيٌّ محترف”. وأنا واحدة من هؤلاء الصحافيّين الذين ترعرعوا على هذا المبدأ. وممّن دخلوا إلى عالم المهنة من الشبّاك وليس من الباب. وأعني أنّني دخلتُ دخول الهواة لا دخول المختصّين. والإعلام والصحافة يحتاجان إلى التخصّص، لو كنتم تعلمون!

إقرأ على موقع 180  باسيل إن زار فرنسا.. العقوبات المُجمدة بديل الثلث المعطل!

كلمة أخيرة. “صوت الشعب” التي نحتفي اليوم بذكرى مولدها في شباط/فبراير 1986 كانت التجربة التي أسّست لمكاني في عالم الإعلام والصحافة. لقد كانت تجربة مغايرة ومختلفة عن كلّ تجاربي الأخرى في المؤسّسات الإعلاميّة التي عملتُ فيها. هي تجربة “هيمنت” على كلّ مساري في المهنة. وتركت بصماتها في عملي كأستاذة جامعيّة. “صوت الشعب” كانت واستمرّت وستبقى، على الدوام، صوتي. ففيها تدوزنت أوتار حنجرتي كي أصدح بصوتها. حنجرتي التي بُحَّت بفعل سنوات البُعاد الطويلة عن هذا البلد. كلّ عيد و”صوت الشعب” بألف خير.

(*) مداخلة قدمتها الكاتبة، مساء أمس، في ندوة “صوت الشعب”، في مسرح المدينة، في إفتتاح مهرجان “صوتك مش صدى”، لمناسبة الذكرى الـ 36 لتأسيس الإذاعة. 

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الممر الهندي الخليجي الأوروبي.. ماذا إذا تعثر؟