كما هي الحال عند اندلاع أيّ مواجهة أو حرب مع هذا العدوّ بالذّات: تتصاعد الأصوات والمواجهات الكلاميّة في لبنان وفي المنطقة، ضمن هذا الفريق العربيّ أو ذاك.. وينسى أغلبنا، أو يتناسى في بعض الحالات للأسف، أنّ مقصد العمليّات العسكريّة والأمنيّة في النّهاية هو خدمة الأهداف السّياسيّة والاستراتيجيّة لا العكس.
لذلك، لا بدّ برأيي، وفي هذه المرحلة، من محاولة إعادة رسم صورة مختصرة وعامّة – ولكن واضحة – لما يحصل، تكون منطلقاً لتحديد معايير الرّبح والخسارة الاستراتيجيَّين في هذه المواجهة، الآن وبعد حين.
إنّها إذن الحرب على جبهة لبنان؛ والتي يُمكن وضعها ضمن مراحل “حرب الطّوفان الكبرى”.. التي بدأت منذ سنة من اليوم تقريباً.
***
أوّلاً؛ من الخاطئ جدّاً نسيان أو تجاهل أنّ المواجهة العسكريّة والأمنيّة والسّياسيّة الحاليّة هي بين: حركة مقاومة أو تنظيم عسكريّ مقاوم من جهة، وبين جيش نظاميّ ذي خلفيّة ودعم استعماريَّين عالميَّين من جهة ثانية. لذلك، فمن الأخطاء الشّائعة، والتي علينا بالتّأكيد تركها وتجنّبها في هذه المرحلة: المقارنة ما بين الدّمار الكُلّيّ من الجهتَين، أو ما بين عدد القتلى والجرحى الكُلّيّ أيضاً.. أو حتّى ما بين قوّة النّار والقوّة التّكنولوجيّة (الكُلّيّة) من الجِهَتين. مهما كانت الأخطاء الاعلاميّة والتّربويّة التي أدّت إلى هذا الصّنف من الأخطاء حتّى ضمن بيئة المقاومة اللّبنانيّة: علينا أن ننتبه إلى عدم تكرار هذه الأخيرة.
كما أنّه: علينا التّذكّر على الدّوام بأنّنا واقعاً في خضمّ مواجهة بين قوَّتَين غير متماثلَتَين بالمعنى الكُلّيّ (Total) أو المُطلق (En termes absolus)، وإن كان لدى الفريق “المقاوم” تفوّق جزئيّ (Partiel) أو نسبيّ (Relatif) في بعض الزّوايا المهمّة.. وهي التي قد تُمكّنه، في النّهاية، من فرض أنواع معيّنة من أنواع معادلات الرّدع و/أو الانتصار كما سنرى، وذلك بالرّغم من التّفوّق العامّ لعدوّه إذن.
ثانياً؛ بطبيعة الحال، وفي هذا النّوع من المواجهات أو الحروب، لا بدّ في البداية من أن تكون الصّورة واضحةً جدّاً في ما يخصّ.. أهداف الطّرف المُحتلّ، أو الاستعماريّ، أو النّظاميّ إلخ. (أي “الأقوى” بالمعنى الكُلّيّ كما رأينا). لأنّ هدفاً جوهريّاً من أهداف العمل الحركيّ المقاوم كما أشرنا أيضاً: هو، في النّهاية، أن يمنع العدوّ من تحقيق أهدافه (خصوصاً منها الاستراتيجيّة). فما هي أهداف العدوّ الإسرائيليّ، الأهمّ، في هذه المواجهة بالذّات؟
- أعلنت الحكومة “الإسرائيليّة” نفسها، بداية الأسبوع الفائت، إضافة هدف اعتبرته “واضحاً” إلى أهداف الحرب الدّائرة على غزّة: وهو هدف إعادة سكّان شمال فلسطين المحتلّة إلى قراهم وبيوتهم “آمنين”. هذا أقلّه الهدف الرّئيسيّ المُعلن، والذي يندرج ضمنه بند ما يُسمّى “تحقيق انسحاب حزب الله إلى شمال اللّيطانيّ” (أو أبعد حسب التّسريبات الواردة خلال اليومين الماضيّين، لا سيّما في ما يخصّ الصّواريخ الاستراتيجيّة، ولهذا الجانب بحثه الخاصّ لاحقاً).
- ويترتّب على هذا الهدف، بالمعنى العمليّ، كما أشار نتنياهو نفسه هذا الأسبوع.. هدفٌ ثانٍ قد يكون من صنف الضّروريّ بالنّسبة إليهم. إنّه: هدف فصل جبهة لبنان عن جبهة غزّة (وبالتّالي، الوصول عمليّاً إلى تسوية جديدة على جبهة شمال فلسطين المحتلّة، بمعزل عن موضوع هدنة أو تسويات جبهة غزّة بشكل عامّ).
- أمّا إذا ذهبنا أكثر نحو باطن الأمور، مع التّنويه بأنّ نتنياهو نفسه بدأ يفضح بعض معالم أهدافه الباطنيّة، فيُمكن ذكر هدف استراتيجيّ آخر ليس ببعيد أبداً في اعتقادي عن ذهن رئيس وزراء العدوّ ويمين حكومته. إنّه هدف تدمير قدرات “حزب الله” بشكل نوعيّ، لا سيّما قدرته “الاستراتيجيّة” على الاستمرار في قصف مناطق شمال فلسطين المحتلّة.. وصولاً إلى قدرته على قصف مختلف المناطق الواقعة تحت سيطرة حكومة الاحتلال بشكل أعمّ.
ثالثاً؛ هذه إذن، باختصار وبوضوح نسبيّ على ما أرجوه، أهداف قيادة الكيان الاسرائيليّ. فماذا عن أهداف قيادة المقاومة اللّبنانيّة أو “حزب الله”؟
- عند هذا الحدّ، يتوجّب علينا العودة، وبدقّة وبأمانة فكريَّتَين إلى ما أشرنا إليه آنفاً. ففي جوهر الأمور إذن، وفي عُمقِ عُمقِها: طبيعة المواجهة تقضي بأن يكونَ لدى تنظيم عسكريّ وسياسيّ مُقاوم “كالمقاومة الإسلاميّة في لبنان”.. هدفٌ مركزيٌّ واحدٌ بيّنٌ جليٌّ واضحٌ، ألا وهو منع العدوّ من تحقيق أهدافه الاستراتيجيّة الكبرى، بالإضافة إلى منع ما استطاع المقاومون إليه سبيلاً بالنّسبة إلى أهداف العدوّ التّكتيكيّة.
مجدّداً، وبكلّ موضوعيّة: إنّ أيّ ابتعادٍ عن هذا التّصوّر الاستراتيجيّ العامّ لهذه المعركة هو باعتقادي خاطئ ومُجانب للواقع وللحقيقة، من أيّ جهة أتى. وإنّ تصويب البعض على عدد من الجوانب الجزئيّة في معركة تحرّر وطنيّ كهذه، كالضّحايا المدنيّين وجرائم الاحتلال ضدّ الانسانيّة والتّفاوت التّكنولوجيّ وما إلى ذلك: هو إمّا مجانب للحقيقة بالتّأكيد؛ أو هادفٌ إلى مساندة “الاسرائيليّ” في تسويق أهدافه التّكتيكيّة. فلنبقَ مركّزين على الجوهر الاستراتيجيّ لمعركة كهذه.
- وضمن المنطق العامّ لهذا الهدف الجوهريّ المركزيّ إذن، يُمكننا إضافة بعض الجوانب الجزئيّة أو التّفصيليّة إن أردت. منها إذن: منع عودة سكّان شمال فلسطين المحتلّة الصّهاينة إلى ديارهم “آمنين”.
- ومنها: منع الفصل بين الحلّ في لبنان (مع القرار ١٧٠١ أو مع غيره) من جهة، والحلّ في غزّة من جهة أخرى.
- ومنها إن أردت: منع فرض إيقاف جبهة الاسناد اللّبنانيّة.
- ومنها أيضاً: الاثبات للعدوّ ولجميع الأطراف المعنيّة أنّ المقاومة اللّبنانيّة تُحافظ على أغلب قدراتها العسكريّة والأمنيّة، كما على أغلب نقاط قوّتها الاستراتيجيّة بشكل عامّ.. ومنها قوّتها الصّاروخيّة والنّاريّة الاستراتيجيّة إذن، بالإضافة إلى امتدادها الشّعبيّ، والجغرافيّ، والاقليميّ، وبالإضافة إلى موقعها الجيوسياسيّ المحوريّ في المنطقة.
***
انطلاقاً ممّا سبق، ومن نقده و/أو تكملته: أدعو نفسي وجميع الأحبّة والزّملاء إلى محاولة تدقيق وتصويب الصّورة الاستراتيجيّة العامّة ضمن نقاش هذه المرحلة وهذه المواجهة، وضمن نقاش معايير الرّبح والخسارة الاستراتيجيَّين (لا سيّما عندما يحين وقت نهايات ومآل الأمور).
لا يجوز أن ننجرّ وراء بعض المحاولات “الاسرائيليّة” والاقليميّة.. للتّشويش الاعلاميّ والذهنيّ الاستراتيجيّ إن صحّ التّعبير.
ومن هنا أيضاً، وبهدوء: لنسأل أنفسنا، وبموضوعيّة. ألا تبدو “إسرائيل” الآن: وكأنّها قد أقحمت نفسها مجدّداً في كارثة استراتيجيّة اضافيّة.. لن تستطيع تغطيَتَها من خلال الضّربات التّكتيكيّة والجزئيّة هنا وهناك، ومن خلال الجرائم ضدّ الانسانيّة؟
فلنتفكّرْ جيّداً، ولننفتحْ معاً على حوار من النّوع الموضوعيّ والاستراتيجيّ في هذه المرحلة الدّقيقة من تاريخ لبنان ومنطقتنا.