تاريخيًا، عرف الفلسطينيون هذا النوع من المقاومة المبنية على الرموز والسلوكيات الجمعية قبل ظهور التنظيمات المسلحة بزمن طويل، فخلال الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 تخلى فلسطينيو المدن عن اعتمار الطربوش الشامي الأحمر، لصالح الكوفية، إسنادًا للثوار ونضالهم، وتضييقًا على ملاحقات الانتداب البريطاني التي رأت في الكوفية خصمها اللدود، ونتيجة عمومية الفعل وما رافقه من تأييد شعبي تبنت الصحف الفلسطينية هذا التحول وأعلنت تعميمه، بينما سار مثلًا بين الفلسطينيين القول “حطة وعقال بسبعة قروش وعرص الليّ بيلبس طربوش”.
وعقب النكبة وبرغم العدد المهول من اللاجئين الفلسطينيين وتشتتهم في مختلف أصقاع البلاد العربية، إلا أن الدراسات الاجتماعية-وبخاصة الإسرائيلية منها- أثبتت أن الممارسات اليومية للاجئين قريبة الصلة بممارسات أجدادهم وآبائهم قبيل النكبة، بل إنهم يتوارثون اللهجة والأمثال والمنطق الفكري ذاته، ويعرفون أنفسهم طبقًا لبلداتهم الأصلية لا إلى مكان إقامتهم الحالي، ما حدا بالباحثين لاعتبار الجيلين الثاني والثالث من اللاجئين متمسكين بالعودة تمامًا كالجيل الأول.
***
خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987)، كان العمل الشعبي الجماهيري سائدًا على حساب العمل التنظيمي المسلح، حيث برزت الممارسات اليومية للفلسطينيين كأقوى ما تكون عليه المقاومة السائلة، من قبيل الزراعة البيتية، وإعداد الطعام جماعيًا، وفتح البيوت أمام المطاردين والمتعطلين على الطرقات المغلقة، وتبادل زيارات الأسرى في السجون، والالتزام بتوجيهات قيادة الانتفاضة. وقد شكّلت هذه المرحلة نموذجًا لمقاومة واسعة تشمل جميع الفئات، من الأطفال والنساء إلى العمال والمعلمين والطلبة، دون هرمية قيمية بين أشكال المشاركة.
وحتى أثناء الانتفاضة الثانية (2000)، ظل الفعل اليومي حاضرًا، من قبيل حملات الدعم الشعبي لأصحاب البيوت المهدمة خلال اجتياحات الاحتلال للضفة الغربية، و”الفزعات” الاجتماعية لعائلات الأسرى والشهداء، وتحول المؤسسات التعليمية إلى فضاءات للتعبئة الوطنية وفتح البيوت والمجالس القروية للمتعطلين على الطرقات، وتوزيع الطعام على المقاتلين في أزقة المخيمات.
وبرغم أن الانتفاضة الثانية مثّلت المرحلة الفاصلة التي أصبح الفلسطينيون فيها قادرين على مراكمة وعي عسكري وتنظيمي أهْلهم لدخول مضمار المقاومة المسلحة بكفاءة، ما رفع من قيمتها مقابل نماذج وممارسات المقاومة الأخرى، إلا أن الممارسات اليومية للمقاومة ظلت سائدة وحاضرة بشراسة.
من المهم الإشارة هُنا، إلى أن تصدر المقاومة المسلحة على حساب المقاومة اليومية لم يكن نتيجة تعالٍ من المقاومة المسلحة وفاعليها، ولا مؤشرًا لاختفاء المقاومة اليومية من حياة الفلسطينيين -وهو ما لم يكن-، بل باعتبارها الأقدر على التأثير نفسيًا وعسكريًا وسياسيًا سريعًا على المحتل، وبمستواها المتقدم الناتج عن مخرجات المقاومة اليومية بالأصل.
هذا الرابط بين الناتج والتأثير، لم يمنع بعض الباحثين من اعتبار المقاومة المسلحة “نخبوية”، واتهامها بإقصاء المقاومة الشعبية على الرغم من أن المنغمسين فيها هم حصيلة المقاومة اليومية، ناهيك عن بعدهم بالفعل عن النخبوية، بل هم لما دون الاعتيادي أقرب، فغالبيتهم العظمى لا يملكون رفاهية مادية تعينهم على مواصلة طريقهم والركون إلى أمن اقتصادي لعائلاتهم، كما أن طبيعة العمل المسلح تفترض ملاحقة ومطاردة وتخفٍ على عكس “نخبوية” الظهور، غير أنهم ارتأوا إضافة المزيد من الأثر لفعلهم فغدت نتائجه أكبر من مسيرة سلمية.
***
اليوم وبعد عامين من حرب الإبادة، وحالة الحصار الكثيفة التي تعاني منها المقاومة المسلحة والإنهاك والتجويع والخذلان في الضفة الغربية، عاد تموقع المقاومة اليومية إلى مربعه الأول، بل أصبحت تستحق التوثيق والمتابعة والنشر بصفتها “رأس نبع” المقاومة بكل أشكالها، ما استدعى محاربتها من قبل الاحتلال والسلطة على حدٍ سواء، وتجفيفها بالتوازي مع جز الحاضنة الشعبية والاجتماعية الممارسة لها.
ومن أشكال المقاومة اليومية التي تعود للتموقع اليوم في قطاع غزة؛ إجبار الحياة على العودة إلى سكتها الروتينية، برغم التهجير المكثف، والتدمير الشامل، واستمرار النزيف والاستنزاف، والحصار ومنع إدخال المواد الضرورية للإعمار والتشافي والنهوض.
يتمثل ذلك في حفلات الأعراس الجماعية التي أقيمت مؤخرًا على ركام المنازل المدمرة -عنادًا بمن دمرها-، وعودة الطلبة الجامعيين إلى ما بقي من جامعاتهم مع تطويع النظام التعليمي لتجاوز الفجوة الأكاديمية المتحصلة عن الإبادة، وتأمين عدد من مساحات العمل المساندة (hubs work space) لدعم الشباب في الحصول على وظائف وأعمال عن بعد وتحسين ظروف حياتهم، وغيرها من الممارسات.
***
في الضفة الغربية، حيث يقع الفلسطينيون بين كماشة السلطة والاحتلال، تغدو الحملات الشعبية لمقاومة الاستيطان في جبل صبيح -شمال الضفة الغربية، مؤرقة للسلطة كما للاحتلال، فيما يتفاعل الجانبان مع الحراك الطلابي في الجامعات، والمسيرات الشبابية على الحواجز، وحملات مساندة الأسر المهجرة من المخيمات المنكوبة باعتباره تهديدًا واحدًا لكليهما.
برغم ذلك لا تتوقف أنماط الممارسة اليومية للمقاومة، فخلال الأسابيع الأخيرة انتظمت أمهات عددٍ من الأسرى في سجون السلطة في ممارسة احتجاجٍ يومي على مواصلة اعتقال أبنائهن دون وجه حق في سجون السلطة، بينما يواصل المزارعون الفلسطينيون محاولات حصاد موسم الزيتون رغمًا عن المحتل ومستوطنيه، فيما لم تمنع هجمات الاحتلال وإغلاقه القرى الفلسطينية في ردع الفتية والشبان عن استهداف سيارات المستوطنين وترهيبهم، بينما احتفى الفلسطينيون بالمفرج عن أسراهم، وخرجوا في تشييع شهدائهم، بل وفي بعض المناطق استتُبعت الجنازات بحشود أمام منازل عائلات الشهداء تضامنًا معهم.
هذه الممارسات اليومية، تتغذى على القمع والعنف من الاحتلال وأعوانه، وتتعاظم في مواجهة شراسته، بل وتغدو أكثر تنويعًا، من فردية إلى جماعية، من مرئية إلى سرية، من سلمية إلى مفعمة بالعنف، وتكتسب معناها بمواجهتها لسيطرته على التعليم والإعلام والدين والثقافة، لتؤسس نوعًا آخر من المواجهة تنتهي بفقدان المحتل سيطرته على وسائل الإنتاج الذهني والمجتمعي للمقاومة.
يُطلق جيمس سكوت على هذا النوع من الممارسة “أسلحة الضعفاء”، ويرى أنها الممارسة السائدة لفاقدي النفوذ والقدرة، وأن تحورها إلى فعلٍ آخر -أسلحة أكثر قوة- من قبيل الاحتجاجات العارمة والثورة والتصعيد يتطلب أربعة أسباب، يمكن ترجمتها على الواقع الفلسطيني وفق التالي؛ أولًا غياب المنفعة المشتركة بين الفلسطينيين والمحتل، وثانيًا غياب شبكة أمان ما يترك الفلسطينيين أمام خيارين الموت أو المقاومة، وثالثًا غياب المحايدين والمتفرجين وانتقالهم من مربع التنظير لمربع الفعل، وأخيرًا غياب أي سلطة محلية قادرة على امتصاص الغضب أو إعادة تحويله.
***
من زاوية أخرى، يميل كثيرٌ من الفلسطينيين للقول بغياب المنفعة المشتركة بين الفلسطينيين ومحتلهم، أما على الواقع فإن كُلًا من التنسيق الأمني المشترك، والمناطق الصناعية الاستيطانية المشتركة والموزعة ما بين شمال وجنوب الضفة الغربية، وبطاقات الـVIP للسياسيين والاقتصاديين، والاقتصاد المرتبط بالعملة الإسرائيلية، وظهور جماعات مسلحة تعمل تحت مظلة الاحتلال في القطاع، يؤكد أن المنفعة المشتركة ما زالت قائمة، وأن الطبقات المستفيدة منها ما زالت معينة في وأد المقاومة اليومية حتى على حساب السيطرة والاقتلاع الذي يمارسه الاحتلال بحق الطبقات الأخرى.
أما غياب شبكة الأمان التي تمنع السقوط الكامل، فهي موجودة من خلال منظمات المجتمع المدني التي تُوظّف 321.493 فلسطينياً، ومنظمات القطاع الحكومي -وبخاصة الأمني- التي ينضوي تحتها أكثر من 83 ألف فلسطيني، ما يجعل نسبة كبيرة من الفلسطينيين بعيدة عن خطر الموت جوعًا، والوصول إلى نقطة الانفجار، وتحول الوضع الحالي مهما كان سيئًا إلى وضع أفضل مقارنة بالانفجار والسقوط الكامل.
***
أثبت تواصل الإبادة الجماعية في قطاع غزة، والضم في الضفة الغربية أن حضور المحايدين والمراقبين والمنظرين في الحالة الفلسطينية قويٌ، وأن نسبة كبيرة منهم لا بأس لديها في توجيه الاتهامات للمقاومة وتحميلها مسؤولية تردي الأوضاع، على أن تواجه الاحتلال -ولو بالكلمة- وتتحمل كلفة مهاجمته أو انتقاده، وفي كثيرٍ من الأحيان تتقاطع طبقة المحايدين مع طبقة المنتفعين من المنفعة المشتركة والمتقبلين للوضع القائمة، ما ينتج تلقائيًا سلطة محلية ومجتمعية وأمنية لا تقتصر مهامها على امتصاص الغضب بل وتقوم بقمعه في قمقمه وتسعى لإعادة تحويله إلى قضايا هامشية أخرى.
بالمحصلة، وضمن هذه الظروف المركبة تبقى المقاومة اليومية الفضاء الأكثر ديناميكية للحفاظ على التماسك المجتمعي واستعادة القدرة على المواجهة، ومع كل محاولات التجفيف والقمع، تواصل هذه الممارسات—بأشكالها الفردية والجماعية، المعلنة والسرية—إعادة إنتاج معنى الصمود في السياق الفلسطيني، وتؤسس لوعي جديد يتحدى سيطرة الاحتلال على المجالين المادي والرمزي معًا، ويمنع تفكك الحاضنة الاجتماعية للمقاومة في لحظات الإنهاك العميق.
