أذكر أنني كنت أحسد الشحاذين من الأطفال الذين من كوة في معطف أمي وثقوب الخوص المشغول بها باب الصالون أراهم يتقافزون من وعلى سلم الترام بشجاعة أو شقاوة يستحقون عليهما حسدي. لم تمنعهم من الاستمرار في التقافز تهديدات الكمساري، وكانت ناعمة، ولا برد الشتاء، وكان قاسياً، ولا ازدحام سلم الترام بالمتهربين من دفع الملليمات الثمانية (بدل أجرة الانتقال) وبالباعة المتجولين البارعين في ممارسة فنون وحيل التهرب من المفتشين.
عرفت عن أمي، في البيت كما في خارجه، تفضيلها قلة الكلام. لم تكن تبادل غيرها من الراكبات في الترام أحاديث كبيرة أو قليلة، إلا أنه لم يكن يفوتها إبراز الخرزة الزرقاء المشبكة بقميصي وتلاوة آيات قرآنية بعينها كلما هبّت واقفة راكبة تستعد للنزول من صالون الحريم وكلما صعدت إليه راكبة جديدة.
***
“يا ريت كنت أكبر من كده شوية”. أظن أنني كثيراً ما نطقت بهذه الكلمات محتجاً وأنا في المدرسة الإبتدائية وبالتأكيد في كل مرة أصرت أمي على أن تقوم “سيدة” الطفلة الريفية المكلفة بمرافقتي في رحلتي الذهاب والإياب إلى ومن المدرسة الإبتدائية التي كانت تبعد عن بيتنا حوالي خمسمائة متر. لعلها كانت أحد أولى مرات تآمري مع طرف آخر في تجربة تمرد أو عصيان. أذكر أنني استطعت إقناع “سيدة” بتسليمي شنطة كتبي وكراساتي كل صباح واستلامها مني عند الظهر بعيداً عن باب المدرسة بمسافة معتبرة. كانت “سيدة” في طولي أو أقصر وفي الحجم أقل وإن كانت تكبرني بعامين وكلها صفات كافية لإحراجي أمام بقية تلاميذ فصلي. الجدير بالذكر ووفاء لها واعترافاً بأفضالها القول بأن “سيدة” عاشت معنا أو بيننا حتى صارت جدة على رأس عائلة ممتدة.
***
انتقلت من المدرسة الإبتدائية إلى الثانوية ومعي شهادات تثبت حسن الانضباط والدراية الكاملة بتاريخ الحركة الكشفية وقوانين الكشافة وتقاليدها. ومع ذلك فشلت محاولاتي الانضمام إلى فريق الجوالة بسبب صغر سني بينما استمرت ترحب بعضويتي قيادة فريق الكشافة. أذكر كم تمنيت وقتها أن أكون أكبر سناً فمع الجوالة تتعدد الرحلات خارج القطر بينما تقتصر رحلات الكشافة على مواقع مصرية وكلها زرتها مع فريقي في المدرسة الإبتدائية. حلوان والفيوم وأبو قير وبورسعيد والواحات وغيرها، باستثناء الأقصر وأسوان، أقمنا فيها خيامنا لليلة أو أكثر وتعرفت على أهم معالمها واكتسبت صداقات دامت سنوات وتجارب ساهمت في صقلي ونضجي ولم أزل دون العاشرة.
قضيت عامين أو أكثر أضغط للانضمام إلى فريق الجوالة ولم تتحقق رغبتي إلا عندما صرت طالباً جامعياً. ما إن تحققت الرغبة إلا وكنت مع فريق جوالة كلية التجارة نزور ليبيا حتى حدودها مع تونس والسودان حتى أقاصي كردفان وفي النهاية كانت زيارتي “التاريخية” مع الفريق إلى غزة وأيام صعبة في سجن مدينة بير سبع وليلة قضيناها في السجن الحربي فور عودتنا إلى غزة. في صباح اليوم التالي وفي نهاية رحلة شاقة ومثيرة جرى ترحيلي من غزة تحت الحراسة إلى القاهرة ومعي ثلاثة رفاق من فريق الجوالة. تحقق الحلم، زرت كل مصر والأقطار المحيطة بمصر ولم أزل دون الثامنة عشرة. الغريب أنني عشت سنوات أتحسر معتقداً أنني لو كنت أكبر سناً في كل رحلاتي الكشفية خارج مصر لسألت أسئلة أصعب وربما حصلت على معلومات أعمق وأوفر.
***
تخرجت وعلى الفور مستعجلاً تحقيق الحلم قمت، ووالدي معي، ومزودين بالأوراق الضرورية بزيارة رئيس قسم المستخدمين بوزارة الخارجية لطلب إلحاقي بالسلك الدبلوماسي. بالصدفة المحضة اكتشف، الوالد ورئيس المستخدمين أنهما تزاملا في مرحلة من مراحل عملهما بالحكومة. تبادلا حديثاً مطولاً قبل أن ينضم إلينا ضيف آخر متقدم في العمر ومعه نجله. تعارفنا وعرفنا أنهما حضرا للغرض نفسه الذي حضرنا من أجله. حانت لحظة المغادرة وكان أهم ما ورد في مراسم التوديع على لسان رئيس المستخدمين قوله، وفي نظرته لنا، نبيل العربي وأنا، تعاطف أبوي واضح وأسف ظاهر، يتمنى أن نعود إليه بعد عامين ليكونا “يحرسهما الله قد تقدما في العمر ليلحقا بشرط السن المقرر قانوناً للتقدم لامتحان الملحقين الدبلوماسيين”.
مرة أخرى، وليست أخيرة، تمنيت لو كنت أكبر سناً. كانت عندما نقلت لي ابنة الشاعر عمر أبو ريشة تحفظه على صغر سني وسنها قبل أن أتقدم رسمياً لخطبتها!
***
أشهد أنني الآن، وفي هذا العمر المتقدم الذي بلغت، لم أعد أتمنى أن أكون أكبر سناً أو أصغر. أنا مرتاح تماماً لما حقّقت وسعيد به. لا وقت عندي لتحقيق غرض فاته أن يتحقق عندما كان الزمن يسمح ويفيض، ولا يوجد بين برامجي أو طموحاتي هدف يستحق أن أطلب له عمراً إضافياً.