من بين موجات التطبيع الثلاث الحاصلة حتى الآن، كانت الثالثة هي الأعتى، والأشد خطورة بما لا يُقاس، إذ لطالما كانت الأولى والثانية اللتان وضعتا كلاً من مصر والأردن و”السلطة الفلسطينية” في “رزمة القصب” التي لا تحتاج لأكثر من خيط رفيع لوضعها في القالب، وهي لم تنتج أكثر من “سلام” يمكن أن يُطلق عليه “سلام الأنظمة”، في حين فشلت في تحقيق اختراقات وازنة داخل النسيج المجتمعي- الثقافي للمجتمعات المستهدفة، بل إن بعض الذي طاله الخرق، من هذي الأخيرة، ظلّ يعيش حالة “الجزر المعزولة”، والشاهد هو أن غراس “كامب ديفيد” لم تثمر “سلاما” على الرغم من بلوغها سن السابعة والأربعين، ولا مثلها فعلت شقيقاتها في “أوسلو” و”وادي عربة” اللتين تأخرتا عن الأخيرة بنحو ثمانية عشر عاماً. ومن المؤكد أن النتائج المستحصلة من تلك التجارب كانت قد أفضت إلى نتيجة مفادها أن “العطب” ناجمٌ عن أن التركيز فيها كان منصباً على “البنى الفوقية”، وهي غالباً ضعيفة التمثيل لشارعها، ويرتبط بقاءها بدرجة كبيرة بتوازنات إقليمية ودولية، فيما المطلوب، للنجاح، هو التركيز على “القواعد التحتية” من نوع القيم والأفكار التي يتبناها النسيج المجتمعي- الثقافي، وعلى طاولة هذه القاعدة الأخيرة جرى “تفصيل” اتفاقات “ابراهام”، الموقعة ما بين الإمارات واسرائيل في شهر أيلول/سبتمبر من العام 2020، والتي لم تلبث البحرين، بعد أيام، أن انضمت إليها ثم تلتها السودان بعد نحو شهر .
طبخة حصى!
تقوم الفكرة الأساسية لإتفاقات “ابراهام” بوجوب العودة إلى “الجذور” في محاولة لإلغاء ما أنتجته “الفروع”، حيث من الممكن للفعل، الذي يعني هنا أن الأديان السماوية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام جميعها تعود في نسبها إلى ابراهيم الملقب بـ”أبي الأنبياء”، أن ينجح فيما فشلت فيه موجتا التطببع آنفتي الذكر، وعليه فإن الجهد بات ينصب في اتجاهين، الأول، يقع عاتق انجازه على أكتاف “المنظرين” الذين يفترض بهم إيجاد الحامل الفكري- التوفيقي اللازم لـ”ضم” ما لا يمكن ضمه. والثاني، على أصابع “الدعاة” الذين سيكون مناطاً بهم الترويج للأفكار التي ينتجها المستوى الأول، ولعل حكماً أولياً على المشروع يفضي إلى أن الفعل لن يكون أكثر من “طبخة حصى” من الصعب لأي درجة غليان أن تجعل منها مادة يمكن تقدمتها على “مائدة الطعام”.
جاءت صورة الله التي قدمها كل من الإسلام واليهودية، بعكس المسيحية، على هيئة إله “حربي”، بمعنى أنه فاعل وداعم لعباده الساعين لنشر التعاليم التي أرسلها إليهم، وهذا الأمر على الرغم من أنه يبدو مدعاة للتوافق بين الأولين، إلا أن ذلك لا يستوي عندما تجتمع الصورتان في جغرافيا محددة، ولربما يمكن تلمس ذلك الأمر بوضوح عبر دوافع ومخرجات “غزوة خيبر 7 للهجرة – 629 للميلاد”، التي لطالما كانت مؤشرا على طموح للإسلام بالإرتقاء نحو العالمية، لكنها تلحظ أن تحقيق الطموح رهين باجتثاث “هوية” مناوئة ما انفكت تمارس فعل “المنافسة”، وتالياً النخر في البنيان الحامل لذاك الطموح، حيث لا بديل من طغيان هوية على أخرى إذا ما كانتا متشابهتين وتعيشان في رقعة جغرافية محددة.
وفي مقلب آخر، فإن “الله” اليهودي يعطي الفرد “فرصة” واحدة، هي الحياة الدنيا، التي تنتهي عندها التجربة وتقفل ملفاتها تماماً، في حين يُعطي “الله” الإسلامي، وكذا المسيحي، لعباده “فرصتان” الأولى، في الحياة الدنيا، وهي الأقصر، والثانية، في الحياة الآخرة الأبدية، والمؤكد هو أن لهاتين النقطين دورهما الكبير في بناء الشخصية، وكذا في مسارها وأفكارها، ولهما أيضاً تداعيات مباشرة على السلوك الحاكم لتلك الشخصية، ومن حيث النتيجة فإنهما كفيلتان في تقديم شخصيتين متناقضتين من الصعب لهما “التساكن” تحت أي ظروف أو محفزات، حتى ولو استخدمت للفعل “حاضنات” من شأنها أن تطيل من عمر “الخديج” الذي لن يلبث أن تجف عروقه بمجرد القذف به خارج الشروط التي توفرها عادة هذي الأخيرة.
استعادة البوصلة
وفي خطاب له أمام “الكنيست” الإسرائيلي يوم 28 تشرين الأول/أكتوبر المنصرم، قال رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو إنه “يأمل في التوصل إلى مزيد من اتفاقات السلام مع الدول العربية بعد انتهاء الحرب الحالية مع حماس وحزب الله المتحالفين مع إيران”، وأشار إلى “أهمية مواصلة اتفاقات ابراهام التاريخية”، قبيل أن يضيف إن “بعض الدول العربية معجبة بتصميمنا وشجاعتنا”، ومن “دون صمودنا سينهار العالم”.
ومن الواضح هنا أن استحضار التاريخ بهذا الزخم له مدلول واضح، وهو يشير إلى رؤية مفادها أن معطيات “الراهن” تشي بأن الكيان، برغم كل هذه “القوة” التي يظهرها، لم تعد كافية لحمايته من السقوط، فالمشهد خادع وهذا الإستخدام المفرط لأعتى أنواع الأسلحة دلالة واضحة على اهتزاز الركائز التي يحاول نتنياهو تقويتها استنادا إلى موروث تاريخي لعل الأخير يأتي بالنتائج المرجوة، بعد أن عجزت جهود الغرب في الإتيان بها.
واللافت للانتباه في الأمر هو أن جزءاً وازناً من العرب، أنظمة ونخباً، فقدوا بوصلتهم، ورأى بعضهم في ما يجري تهديداً، هو الأول من نوعه، لكيان بات بحاجة إلى “قارب” إنقاذ خشبه عربي على وجه التحديد، فيما المؤكد أن الشارع العربي، هو على الضفة الأخرى التي ترفض تقديم “المسامير” اللازمة لصناعة القارب، ولعل المهمة الكبرى لهذا الأخير الآن هي الإنخراط بكل تياراته وأحزابه وطاقاته في مشروع تحطيم “المرفأ” المخصص لبناء القارب، وكل كلمة وأدنى فعل، سيكون لهما تأثيره في بلورة وعي جديد يصب في هذا الإتجاه، ويساهم في استعادة “البوصلة”؛ بوصلتنا، التي راحت تتمايل على وقع تعدد “المدارات المغنطة” من حولها، حتى لم تعد تستطيع التصويب على جهة الشمال.