هل يَستطيع أردوغان.. “خلافة المُسلمين”؟

لا شكّ عندي في أنّ "عودةَ الخلافة" هي قضيّة رمزيّة، وربّما عمليّة مهمّة بل ومهمّة جدّاً، في ما يعني الوعي، وخصوصاً اللّا-وعي، الفرديَّ والجماعيَّ لدى شريحة كبيرة من المسلمين حول العالم. يعتبرُ جزءٌ كبيرٌ من هؤلاء أنّ مصيبةً كبرى قد حلّت بـ"الأمّة" عند سقوط موقع "الخلافة" مع انهيار السّلطنة العثمانيّة. ولا بُدّ إذن أن "تعود" هذه "الخلافة" بطريقة أو بأخرى. ومن الواضح أنّ الكثيرين يرَون اليوم في الرّئيس التّركيّ، رجب طيّب أردوغان، نوعاً من تجلٍّ "ما" لمشروع عودة "الخليفة المنشود" هذا..

هو تصوّرٌ عملت عليه الأردوغانيّة بشكل أو بآخر منذ بدايات ما سُمّي بالرّبيع العربيّ أقلّه. لعبت المنظومة الأردوغانيّة ومنظومة حزب العدالة والتّنمية على بناء هذا التّصوّر منذ سنين، وعلى تغذيته فكريّاً وثقافيّاً وعاطفيّاً، وبمختلف الطّرق.. خصوصاً منها التي تعمل على اللّا-وعي الجماعيّ لدى شريحة كبيرة من الأفراد المُسلمين ولدى عدد كبير من الجماعات الاسلاميّة في المنطقة وحول العالم.

وقد تناولتُ هذا الموضوع في مقال سابق على موقع 180Post، حيث اتّخذتُ موقفاً ايجابيّاً – عموماً – من العمل الثّقافيّ والتّثقيفيّ الجبّار الذي قامت به منظومة حزب العدالة والتّنمية – وبيئتها – في سبيل إعادة تركيا إلى المشرق وإلى الشّرق.. لا سيّما منهما الاسلاميّ. غير أنّي اتّخذتُ موقفاً سلبيّاً صريحاً وقتَها من أردوغان نفسه، كزعيم سياسيّ، بسبب توجّهاته الجيوسياسيّة عموماً.

وبعدَ الذي حصلَ في سوريا مؤخَّراً منذ سقوط النّظام البعثيّ السّابق، ومع ما شهدناه – عموماً أيضاً – من تعاطف واسع نسبيّاً مع “العامل التّركيّ” الدّاعم لهذا الانقلاب على نظام بشّار الأسد.. أعتقد أنّ علينا احترام هذه اللّحظة بشكل أو بآخر، ومحاولة النّقاش الجدّيّ مع هذه الظّاهرة المذكورة.

إنّها الظّاهرة التي يرمزُ إليها بما يُمكن تسميته اليوم تحديداً.. بـ”المشروع الأردوغانيّ لعودة الخلافة الاسلاميّة”، مع أخذٍ للظّروف الرّاهنة في الاعتبار، ومع احترامٍ للمفاهيم الأساسيّة للقرن الواحد والعشرين، ولعَصرَي الحداثة وما-بعد-الحداثة.

حقّاً، لنسأل أنفسنا في هذه اللّحظة المحوريّة: ما الذي يمنع أردوغان اليوم من تحقيق هذا الهدف-الحلم المُعلن وغير المُعلن؟ (كما أشرنا، هو حلم فيه جانب “رمزيّ” قويّ جدّاً.. بل وجوهريّ).

أعتقد أنّ هناك تحدّيات كثيرة تقف حتّى الآن بين المَسار الفكريّ والسّياسيّ للرّئيس التّركيّ الحاليّ، وبين تحقيق هذا الهدف العمليّ والرّمزيّ واقعاً. القضيّة يلزمها نقاش ودّيّ لكن مُعمّق وصريح.

ولكنّني أودُّ التّوقّفَ عند النّقاط الجوهريّة التّالية، ربّما ليبدأ الحديث من نقطة مُعيّنة، وذلك من وجهة نظري النّقديّة “الايجابيّة” كما وعدت:

أوّلاً؛ خليفة.. “أيّ إسلام”؟

واقعاً، يُمكن ملاحظة أنّ “الإسلام” الذي يتمّ التّرويج له إعلاميًّا وثقافيّاً ورمزيّاً داخل تركيا.. هو، بشكل عامّ وغالب، إسلامٌ من النّوع الصّوفيّ. وقد تطرّقنا في السّابق من القَول والمَقال إلى ظاهرة المسلسلات والرّوايات وما إلى هنالك من أعمال فنّيّة وثقافيّة وتربويّة.. تصُبّ اجمالاً في نفس الاتّجاه العامّ (الرّمزّي إذن، والعمليّ أيضاً).

ولكنّ الاشكاليّة تكمن صراحةً في أنّ “الإسلام” الذي يُحاول أردوغان التّمدّدَ من خلاله عمليّاً وسياسيّاً ورمزيّاً خارج تركيا وإلى اليوم، لا سيّما في اقليمنا العربيّ والمشرقيّ: يبدو أنّه “إسلام” من نوع مُختلف عن ذلك “الإسلام الصّوفيّ” كما سمّيناه للتّبسيط وبهدف الاختصار. فنحن نرى هنا وهناك توجّهات سلفيّة، وظاهريّة عموماً.. ومع ذلك، هي التي يتمّ من خلالها التّمدّد الأردوغانيّ هذا، وما سوريا إلّا مثالٌ من بين الأمثلة المتعدّدة في اعتقادي إلى اليوم.

من هنا، أعتقد أنّنا أمام أحد المعضلات الجوهريّة في ما يخصّ ذلك المشروع المذكور: عن أيّ “إسلام” نتحدّث حقيقةً؟ عن إسلام الحلّاج والسّهرورديّ وابن عربيّ ومولانا جلال الدّين وشمس الدّين التّبريزيّ، وإسلام الجُنَيد البَغداديّ ويونس إمري والنّقشبنديّة والقادريّة والرّفاعيّة والبكداشيّة وما إلى هنالك.. أم أنّنا نتحدّث عن التّصوّرات السّلفيّة والظّاهريّة للدّين وللتّديّن بشكل عامّ (دون لزوم، هنا، للدّخول في التّسميات التّفصيليّة، تجنّباً لأيّ سوء فهم في هذا التّوقيت بالذّات)؟

كيف يُسوِّق “مشروع الخلافة الجديدة” إسلاماً صوفيّاً ذا طابع عالميّ – بالمبدأ – في الدّاخل التّركيّ.. بينما يُسوِّق لإسلام ظاهريّ – تكفيريّ في أحيان كثيرة – في الخارج؟ وأنا لا أتحدّث، بطبيعة الحال، عن الجانب “الإخوانيّ” في المسألة كشعار عامّ وضبابيّ.. بل ذكرتُ التّوجّهات “السّلفيّة” و”الظّاهريّة” عموماً، ضمن بيئة “الإخوان” أو خارجها. (بالمناسبة: هل تُسوَّق النّماذج “الإخوانيّة” على اختلافها داخل تركيا؟ لماذا؟ هذا بحثٌ مهمّ آخر، ولكن، أعتقد أنّ الفكرة المركزيّة قد وصلت).

لا شكّ في أنّ قضيّة فلسطين وشعبها سوف تُشكّل نقطة تحدٍّ كبيرة ونقطة اختبارٍ جدّيّة للمشروع الأردوغانيّ. هل يُمكن أن يستقيم “مشروع إسلاميّ” عموماً من دون وضع خُطّة في ما يعني قضايا أراضي المُسلمين، وحرّيّة الشّعوب المُسلمة.. خصوصاً أمام القضيّة المركزيّة الكُبرى وهي قضيّة فلسطين ومسجدها الأقصى المُبارَك؟

أظنّ، والله أعلم، أنّ على أردوغان وفريقه، وبكلّ صدق: العَمَل، نظريّاً وواقعيّاً، على حلّ هذه المُعضلة الأساسيّة حتّى الآن كما يظهر.. والتي قد تؤدّي إلى فشل “المشروع” برمّته على المَدَيَين المتوسّط والبعيد.

(ولا يكفي في ذلك، طبعاً، حلق بعض الذّقون، وتغيير بعض الخطاب هنا وهناك: القضيّة أعمق بكثير، وأظنّ أنّ المعنيّين والمتخصّصين يفهمون جيّداً أهمّيّة وجوهريّة وخطورة المسألة).

ثانياً؛ ماذا عن “الإسلامات” الأخُرى.. والأقلّيّات الدّينيّة (خصوصاً)؟

النّقطة هذه مرتبطة، بطبيعة الحال، بالنّقطة الأولى. السّؤال المركزيّ في هذا الإطار هو التّالي: كيف سيتعامل “المشروع الاسلاميّ” المذكور مع باقي التّصوّرات الموجودة عندنا للإسلام.. ومع الأقلّيّات الديّنيّة والمذهبيّة في المنطقة وفي العالم الاسلاميّ بشكل خاصّ (دون ذكر الأقلّيّات الاثنيّة طبعاً)؟

إقرأ على موقع 180  بوتين خاسرٌ في السياسة.. ولو ربح الحرب!

هل سيكون الاتّجاه هو دول المواطنة المدنيّة والعصريّة؟ أم سيكون على شكل.. دول تحاصص طائفيّ (فاشلة، كما في لبنان والعراق مثلاً)؟ أو على شكل.. دول ذات لون واحد؟ أو.. دول تقبل التعدّديّة ظاهراً، وتقمع وتضطهد الآخرين باطناً.. كما تبدو الأمور في بعض الأمثلة الرّاهنة للأسف؟

إذا لم يُعالج “الخليفة المُرتَقَب” هذه القضيّة بشكل جذريّ وعمليّ وجدّيّ.. فمن الصّعب تصوّر استمرار صمود مشروعه أمام التّحدّيات المُتعلّقة بالتّنوّع الاثنيّ والديّنيّ والثّقافيّ في الإقليم وفي العالم الإسلاميّ.

هنا أيضاً، لا أظنّ أنّ أخذَ بعض الصّور إلى جانب بعض الكنائس هنا وهناك.. كافٍ وجدّيٌّ بأيّ شكل من الأشكال. القضيّة أعمق وأخطر بكثير، وانطلاقاً من السؤال المركزي تتفرع الأسئلة: هل يعتقد هذا “المَشروع الأردوغاني” قيد النّقاش أنّ الصّراع مع “الإسلام الشّيعيّ” قَدَرٌ لا يُمكن تجنُّبُه؟ هل مكتوبٌ علينا أن نعيش مُجدّداً صراعَ العاملَين الفارسيّ والتّركيّ في المنطقة.. تحت غطاء الصّراع المذهبيّ؟ من يُجيب على هذه الأسئلة بطريقة أفضل.. من مشروع جدّيّ وصادق لإعادة “الخلافة” ضمن السّياق الذي بدأنا به؟ فلنُفكّر ولنتناقش بهدوء وجدّيّة.

ثالثاً؛ مشروع “الخليفة” الجديد.. وقضيّتا “فلسطين” و”المسجد الأقصى”

سنكونُ هنا على المستوى نفسه من الصّراحة والواقعيّة معاً، كما كنّا تجاه بعض من يُمكن اعتبار أنّ لهم مشروعاً لتزعّمِ العربِ أو التّيّارات “العروبيّة” بشكل أو بآخر. فإن كان لا بُدّ “لِمشروع مَلِك أو زَعِيم العَرَب” من توضيح تموضُعِه تجاه قضيّة فلسطين وكيفيّة حلّها.. فالأمر ينطبق بطريقة أَولى وأكبر وأقرب.. على “مشروع خَليفة المُسلمين”.

ليست قضيّةُ فلسطين قضيّةً عابرة بالمعنى “الإسلاميّ” قيد النّقاش عموماً: أرضٌ “مُسلمة”، بمعنى أو بآخر، قد تمّ سلبُها من أهلها؛ شعبٌ مُسلمٌ، بأغلبيّته، قد تمّ سلبُ أرضِه وتشريده وتقتيله؛ مَسجدٌ مُقدّس بالنّسبة إلى الأغلبيّة السّاحقة من المُسلمين، يتمّ تهويده وتهديد وجوده يوماً بعد يوم.

وهنا يُطرح السّؤال التّالي: ما هو، أو ماذا سيكون، مُخطّط مشروع “خليفة المُسلمين”، في ما يعني هذه القضيّة:

  • كيف سيتمّ العمل على تحرير هذه الأرض وفكّ قيود هذا الشّعب المظلوم؟ ما هي الخطوات العمليّة، في المَدَيَين القَريب والبَعيد؟
  • ما هي الخطوات الملموسة المُرتقبة في ما يعني قضيّة المسجد الأقصى، والأسرى الفلسطينيّين.. وما إلى هنالك من قضايا معروفة؟

هل يُمكن لمشروع “خليفة المُسلمين” ألّا يُقدّم خُطّةً واضحةً في هذا الإطار.. خصوصاً أنّ أمام عينَيه حال غزّة، والمُجاهدين فيها المُرابطين، وهم في أغلبيّتهم السّاحقة ممّن يؤمن بمشروع “عودة الخلافة”؟ أليس هذا هو الواقع اليوم؟

كلّها نقاط أكثر من مهمّة في رأيي، ضمن إطار المناقشة الايجابيّة لمشروع “الخليفة” المنشود.. خصوصاً أنّ أردوغان ومشروعَه باتا على حدود الكيان الاسرائيليّ اليوم بعد الذي حصل في سوريا مؤخّراً.

أصبحت الجنود المدعومة تركيّاً.. على تماس مع الجيش الاسرائيليّ من الزّاوية السّوريّة، وبشكل واضح. فماذا ستكون الخطّة في سبيل تحرير كلّ هذه الأراضي وكلّ هؤلاء الأفراد: من الاحتلال الاسرائيليّ، في فلسطين، وفي سوريا أيضاً؟

في المُحصّلة، لا شكّ في أنّ قضيّة فلسطين وشعبها سوف تُشكّل نقطة تحدٍّ كبيرة ونقطة اختبارٍ جدّيّة للمشروع الأردوغانيّ قيد النّقاش. هل يُمكن أن يستقيم “مشروع إسلاميّ” عموماً من دون وضع خُطّة في ما يعني قضايا أراضي المُسلمين، وحرّيّة الشّعوب المُسلمة.. خصوصاً أمام القضيّة المركزيّة الكُبرى وهي قضيّة فلسطين ومسجدها الأقصى المُبارَك؟

قد يقولُ قائلٌ اليومَ: إنّ هذه الأخيرة هي التي سترفع أردوغان إلى قمّة مشروعه.. أو ستنفجر، عاجلاً أم آجلاً، بشكل مباشر أو غير مباشر، بهذا المشروع وبكلّ تمدّداته.. خصوصاً في سوريا.

وقدُ يُضيف أحَدُهم، في نفس الإطار العامّ اجمالاً، قضيّة الحلف مع “النّاتو”، بل الانتماء إليه. هل يستقيم مشروعٌ اسلاميٌّ تحرّريّ.. مع بقاء دولته الحاضنة في حلف “النّاتو” مع ما يحمله ذلك من تناقضات عمليّة ورمزيّة؟

هل يُمكن “لخليفةٍ” مُرتقَب: هل يُمكن لَهُ، عمليّاً و/أو رمزيّاً، أن يبقى مُتعلّقاً بحلف “النّاتو”.. أو أن يحتميَ به في كثير من الأحيان؟ ما هو توجّهه ضمن هذا السّياق: البقاء في الحلف؟ الخروج الفوريّ؟ الخروج التّدريجيّ؟ الخروج المدروس؟ ما هي الخطّة، الواضحة والصّريحة، اليوم وغداً؟

***

كلّها أسئلة مهمّة برأيي، خصوصاً في هذا التّوقيت، في ما يعني هذا “المشروع الاسلاميّ” المَنشود أو المُتصوّر إذن. وأعتقد أنّ كلّ مراقب جدّيّ وموضوعيّ يعي خُطورَتها المعنويّة والمادّيّة الأكيدة.. الآنَ أو بَعدَ حِين.

فكيف ستكون مُقاربة “مشروع الخليفة” وفريقه.. في ما يعني هذه الأسئلة الجوهريّة، الصّادقة الطّرح والتّوقيت؟

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  كورونا وأوكرانيا في حسابات نظام دولي مضطرب