نوابنا 2025.. ونوابنا 1947!

لبلدية بيروت رمزيتها التاريخية والوطنية، ولهذا يفترض أن تكون واجهة الإدارة العامة والنموذج في الإدارة اللامركزية، إلا أنها تعاني من أزمات عديدة يمكن رصدها عبر ما يُثيره أعضاء مجلسها البلدي بصورة دائمة ومستمرة.

لعل المدخل الجدي لأي نقاش يتصل بالعاصمة اللبنانية يبدأ من عند دور هذه المدينة المتوسطية الرائعة، وبالتالي كيف نُعيدُ لبلدية بيروت رونقها، وكيف تستعيد بيروت مكانتها وجمالها، وكيف نحافظ على تراثها وآثارها، وكيف نحمي شاطئها والحيّز العام فيها، وكيف نُقدّم الخدمة المميزة للمواطن، وكيف ننشئ إدارة متفانية في خدمة الشأن العام، وكيف نُحاسب من يتسبب بالمس في سمعة البلدية.

وبدلاً من التركيز على هذه الموضوعات الهامة وغيرها، يُثار في الإعلام التوزيع الطائفي لأعضاء مجلس بلدية بيروت (24 عضواً)، وهذا الأمر يُعيدنا إلى أربعينيات القرن الماضي؛ يومها في جلسة المجلس النيابي المنعقدة في 30 أيلول/سبتمبر 1947 كان البرلمان ما يزال يعمل على لبننة الأحكام التي كانت سائدة في زمن الانتداب الفرنسي، وكان يُناقش المشروعين المتعلقين بالانتخابات البلدية والاختيارية بعد أن ألغى التمثيل الطائفي والمذهبي منهما، فعندما طُرح المشروع الأول في الجلسة، قال النائب فيليب تقلا: “إني أرى فتحاً جديداً بقضية الغاء الطائفية في هذا القانون، وأعتبرُ أن تصويتنا عليه خطوة أولى في سبيل الاصلاح الذي لن يتم ما لم يتوارَ شبح الطائفية الذي لن يتوارى من النفوس ما لم يتوارَ من النصوص. نبدأ بإلغاء الطائفية في البلديات ثم في الانتخابات النيابية ثمَّ من الدستور”. أيّده رئيس الحكومة رياض الصلح قائلاً: “لقد كان لي شرف طلب إعادة هذا القانون إلى الحكومة في المجلس الماضي، بعد الطلب إليها أن تُعدَّ المشروع على أساس لا طائفي، ولقد أُعدَّ المشروع على أساس اللاطائفية(…)، وأرجو أن يكون هذا القانون فاتحة عهد جديد في البلد”.

وفي كتابه الداعي إلى “تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية” برئاسة رئيس الجمهورية وضمن خطة مرحلية، وفق الدستور اللبناني الجديد، قال رئيس المجلس النيابي نبيه بري إن تجربة الغاء الطائفية من الانتخابات البلدية والاختيارية، لم تكن مرعبة في نتائجها ولم يُهدَّم شيء في البلد ولم يتأثر شيء في الكيانات اللبنانية أبداً، ولم تؤدِّ إلى خللٍ في صيغة العيش المشترك، حيث كان رجال الاستقلال الأوائل وفي مقدمتهم صانعو ميثاقنا الوطني متقدمين علينا وأبعد مدى في نظرتهم لإلغاء الطائفية، كونهم قصدوا إلغاء الطائفية على اختلاف وجوهها، وبدأوا الخطوة الأولى العملية لتحقيق الهدف، وإن كان لا نص صريحاً على ضرورة الإلغاء، الأمر الذي يعني رؤيتهم بعدم وجود أي تباين بين الميثاق الوطني وبالتالي العيش المشترك والغاء الطائفية.

ومع ولادة “الجمهورية الثانية” غداة التوقيع على اتفاق الطائف، تمّ تكريس مبدأ الغاء الطائفية السياسية في وثيقة الوفاق الوطني ومعها أصبح من المستحيل العودة إلى الوراء، على شاكلة ما نسمع اليوم من مطالبات بإقرار قانون انتخابات بلدية أو اختيارية على أساس طائفي أو مذهبي، فالمطلوب تشريع باتجاه واحد: تعزيز المواطنة لا زيادة الفرقة والتحدي والشرذمة بين اللبنانيين.

أكثر من ذلك؛ إن حظر التشريع الذي يُكرّس الطائفية في الانتخابات البلدية والاختيارية يجد سنده – على سبيل القياس – في العديد من قرارات المجلس الدستوري الذي حظّر العودة عن مبدأ دستوري أساسي، أو الانتقاص منه، وهو من المبادئ المتعارف عليها في الفقه والاجتهاد الدستوريين، ألا وهو المبدأ المعروف بـ”L’effet cliquet” أي الإطار الذي لا يمكنه أن يدور إلا في اتجاه واحد إلى الأمام فقط، من دون الدوران إلى الخلف (المجلس الدستوري قرار رقم 23 تاريخ 12 أيلول/سبتمبر 2019 الرامي إلى إبطال بعض مواد القانون رقم 144 تاريخ 31 تموز/يوليو 2019 المتعلق بالموازنة العامة والموازنات الملحقة لعام 2019)، وكذلك في الاجتهاد الثابت لمجلس شورى الدولة وبمقتضاه طلب تطبيق الصيغة التوافقية بين أبناء إحدى البلدات اللبنانية “لأن هذه الانتخابات تجرى على أساس وطني غير طائفي وفقاً للشروط العامة، وتكون نتائجها تعبيراً عن الإرادة العامة” (م.ش. قرار رقم 983 تاريـخ 31 آب/أغسطس 2016).

أخلص إلى القول إن هناك أموراً أخرى أكثر أهمية يمكن اشغال السلطات بمناقشتها ومتابعتها من مسألة أصبح النقاش بها من المحرمات دستورياً، إذ صار مستحيلاً إعادة عقارب الزمن إلى ما قبل الاستقلال اللبناني.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  بيروت الأولى 2018: "التيار" أولاً، المجتمع المدني ثانياً (2)
عصام نعمة إسماعيل

أستاذ مادة القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  من سارتر إلى هابرماس.. البوصلة الخاطئة لبعض مثقفي الغرب!