

هذه المقاربة لا تزال تهيمن على الخطاب العام، يرافقها بحث دائم عن جهة مانحة خارجية تتحمّل كلفة الإعمار، وكأن المشكلة مالية فقط، وكأن المال يجب أن يأتي من “فاعل خير” نشكره ونمضي.
أنا ابن عيترون، فيها وُلدت وفيها تفتّحت عيناي على معنى الأرض والكرامة، فيها تعلّمت أن يكون للبيت جذور، فعيترون ليست مجرد قرية على الخريطة، بل هي مرآة لوضع الجنوب كلّه وتجسيد لمآسي الوطن. هي مكان تُختبر فيه الدولة بغيابها، والمجتمع بصموده، والعدو بوحشيته. لذلك، فإن الحديث عن إعادة الإعمار فيها لا يمكن أن يكون تقنيًا أو إداريًا فقط، بل هو حديث عن معنى الإنتماء إلى مجتمع، عن دور الدولة، وعن الخيارات الكبرى التي تُطرح علينا كمواطنين لا كضحايا. حين أتكلم عن عيترون، لا أتكلم عن حيّ من الأحياء، بل عن ساحة مواجهة، ومختبر لمستقبل لبنان بأكمله. لذلك أعرض اليوم أمام الجميع رؤية بديلة هي مقاربة حركة “مواطنون ومواطنات في دولة”، المقاربة التي تنطلق من فهم عميق للواقع وتُقدّم طريقًا فعّالًا للتعامل معه.
أنطلق في هذه المقاربة من الجانب المالي، وهو من دون شك عنصر أساسي في إعادة الإعمار، وإن كان لا يختزلها. في مقارنة بسيطة بين اليوم وحرب تموز 2006، نرى اليوم تضييقًا شديدًا على مصادر التمويل، ما انعكس تأخيرًا في تنفيذ مشاريع الإعمار. فالأموال باتت شحيحة لأسباب عدّة:
إعادة الإعمار لا يمكن أن تتم عبر مشاريع متفرقة تموّلها جهات خارجية، بل تتطلب رؤية اقتصادية واجتماعية، أي سياسية، واضحة ومتكاملة. التحدي الأساسي يكمن في الانتقال من منطق “التعويضات” إلى منطق “بناء الاقتصاد”، ومن منطق “المساعدات” إلى منطق “الحقوق”
-
أولًا، تمويل حزب الله يواجه تضييقًا غير مسبوق بسبب الحصار المفروض على الأموال التي تصل إلى الحزب، بالإضافة إلى عراقيل أميركية إضافية على أطر التوزيع.
-
ثانيًا، الشروط التي تفرضها بعض الجهات المانحة – أو بالأحرى المُقرِضة – مثل إنشاء صندوق ائتماني بإشراف البنك الدولي، تعكس محاولة فرض رقابة مشددة على إدارة الأموال بذريعة الشفافية، وصولًا إلى اهتمامها الشديد، وغير المستغرب في هذا السياق، بتركيبة مجلس إدارة الإنماء والإعمار، بحجة الشفافية وضبط الفساد، والهدف فرض معايير توزيع تُراعي مصالح الجهات الدولية المانحة أكثر مما تُراعي حاجات الناس الفعلية.
-
ثالثًا، لأن جزءًا كبيرًا من هذا التمويل أو جلّه سيكون على شكل قروض، والجهات المسماة مانحة هي في الواقع مقرضة، حتى وإن كانت القروض ميسّرة، ما يحمّل المواطنين جميعًا أعباء إضافية مستقبلًا، وهذا يُعيدنا إلى دوامة توزيع الخسائر، والتي خبرناها مع إفلاس القطاع المصرفي.
من جهة أخرى، الاعتماد على طاقات أبناء الجنوب في إعادة الإعمار يصطدم هو الآخر بعقبات أساسية. فقد كان الإنفاق العام وتحويلات المغتربين يشكلان رافعتين أساسيتين للاقتصاد، لكنه اليوم يتراجع بشدة للأسباب التالية:
-
الإنفاق العام تراجع بسبب الانهيار المالي في لبنان، ما حدّ من قدرة حركة أمل، مثلًا، على تأمين التمويل كما في السابق.
-
التقديمات الثابتة التي وفّرها حزب الله لمتفرغيه ولعوائل الشهداء، لم تعد كافية بسبب القيود المفروضة على الحزب وداعميه وتراكم الحاجات وتنامي المتطلبات وتشعبها.
-
الإستنزاف الهائل الذي طال تحويلات المغتربين، سواء خلال الأزمة الإقتصادية، أو بعد بدء جبهة الإسناد حيث أجبر آلاف الجنوبيين على التخلي عن أعمالهم ومصادر دخلهم، في ظل غياب أي حماية اقتصادية فعالة.
-
تبدد المدخرات الفردية والإجتماعية في المصارف المفلسة، مما يحرم الأفراد وحتى البلديات من القيام بأي مبادرة ذاتية للإعمار.
هذا الانكماش في مصادر الدخل يجعل من المستحيل عمليًا العودة إلى الوضع الذي كان قائمًا قبل الحرب، حتى لو تم ترميم كل ما تهدّم.
وهنا، لا يمكن فهم واقع الجنوب وتحدياته دون التوقف عند حقيقة أساسية: العداء لإسرائيل ليس مجرد شعار جماهيري أو انتماء أيديولوجي، بل نتيجة تاريخ طويل من المعاناة والدمار بسبب المشروع الصهيوني في المنطقة. أبناء الجنوب هم من واجهوا الاجتياحات والاحتلال والاعتداءات المتكررة، وهم من دفعوا الثمن الأكبر من دمائهم وبيوتهم ومزارعهم. فالمشروع الصهيوني في الأساس، قائم على تعزيز الطائفية والعصبيات وإضعاف المجتمع اللبناني الهش. من هنا فإن أي مقاربة لإعادة الإعمار تكون ناقصة إذا لم تأخذ بعين الإعتبار تعزيز التماسك المجتمعي وإنتاج فرص عمل تحفز الإقتصاد المنتج وتعزز الصمود.
لكن هذا الواقع ليس سببًا لليأس، بل هو دعوة صريحة للمبادرة والعمل والانتظام!
إعادة الإعمار يجب أن تكون لحظة تأسيس، لا لحظة ترميم. وهي فرصة لإعادة النظر في العلاقة بين الدولة والمواطن، وبين الجنوب وبقية المناطق اللبنانية. لذلك تصبح الخيارات الفعلية المطروحة اليوم مرتبطة بعدد من الأمور:
-
ضرورة توجيه الموارد المالية الشحيحة، ليس فقط نحو البناء، بل بداية نحو الاستثمار الإنتاجي، وليس في الجنوب فقط بل على صعيد البلد كله. الموارد البشرية، ولا سيما الشباب، والبنى المؤسسية هما ركنا الإنتاج. إن ما يحتاجه الجنوب اليوم هو بنية اقتصادية متكاملة تخلق فرص عمل وتنتج قيمة فعلية، تُمكّن أبناءه من البقاء في أرضهم.
-
إعادة ترتيب المجال الوطني على امتداد البلاد كافة يتطلب معرفة دقيقة بالسكان، فيصبح التعداد ضرورة ملحة. فإعادة الإعمار لا يمكن أن تختزل بترميم منزل هنا أو تعبيد طريق هناك، بل هي لحظة لإعادة النظر في العلاقة بين الدولة والمواطن، وبين الجنوب وسائر المناطق اللبنانية.
-
المشروع السياسي لحركة “طمواطنون ومواطنات في دولة” يرتبط أيضاً بتجنيد الهمم لوقف نزيف الهجرة، وصولاً إلى إرساء نظام خدمة وطنية لكل الشباب اللبناني لإعادة تشكيل إدارة مؤسسات فاعلة.
-
الجنوب، ولبنان، بحاجة إلى نظام تعليمي رسمي جيد، إلى تغطية صحية شاملة، إلى سياسات سكن ونقل تُخفّف الأعباء المالية عن الأفراد والعائلات.
بكلمات أخرى، إعادة الإعمار لا يمكن أن تتم عبر مشاريع متفرقة تموّلها جهات خارجية، بل تتطلب رؤية اقتصادية واجتماعية، أي سياسية، واضحة ومتكاملة. التحدي الأساسي يكمن في الانتقال من منطق “التعويضات” إلى منطق “بناء الاقتصاد”، ومن منطق “المساعدات” إلى منطق “الحقوق”.
فآليات الإعمار ليست تقنية محض، بل تعكس بعمق طبيعة النظام السياسي والاقتصادي الذي نريده. نحن أمام مفترق طرق: إما نعيد إنتاج النظام الريعي القديم، أو نحول الكارثة إلى فرصة تاريخية لإعادة بناء الوطن ووضع نظام سياسي واقتصادي مختلف.
التحديات جسيمة، نعم. لكن داخل هذا الركام، تكمن فرصة نادرة لإعادة صياغة النظام اللبناني بما يسمح بقيام دولة عادلة وقادرة.
(*) عضو حركة مواطنون ومواطنات في دولة