

مصر تحاول استعادة موقعها التاريخي بوصفها المركز الضابط لإيقاع العرب، مستندة إلى قوتها البشرية وموقعها الجغرافي ورغبتها في التوازن بين الشرق والغرب. تركيا تتقدّم بحذرٍ متينٍ نحو ترميم علاقاتها مع القاهرة، مستثمرة إرثها الإمبراطوري ولغتها المزدوجة التي تجمع بين الصرامة والمرونة. قطر تملأ المساحات الرمادية بين القوى، فتُعيد خياطة العلاقات بخيوط الوساطة والدبلوماسية الناعمة، مستفيدة من قدرتها على الجمع بين نقيضين: الحضور العربي والاتصال الغربي.
في المقابل، تتحرك إيران كقوةٍ متجذّرة تملك مشروعاً يتجاوز الجغرافيا. تسعى إلى تثبيت نفوذها عبر ممرات تمتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد وصنعاء، معتبرةً أن صمودها في وجه العقوبات والانكشاف الدولي يعادل انتصاراً استراتيجياً. أما السعودية، فتميل نحو إعادة تعريف مفهوم القيادة العربية عبر مزيجٍ من الانفتاح الاقتصادي والإصلاح الداخلي، مع رغبةٍ في احتواء الصراع لا تفجيره. في حين تواصل سوريا – الخارجة من عقدٍ ونيف من الحرب – محاولة تثبيت كيانها كحقيقةٍ سياسية وسط ركام النفوذ المتشابك، وهذه المرة ببراغماتية تجلت بلقاء أحمد الشرع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو.
تسونامي الدم لم يكن حدثاً عابراً، بل هزةً في الوعي الإقليمي دفعت هذه القوى إلى إعادة ترتيب حساباتها. فقد كشفت الحرب الإسرائيلية على غزة هشاشة المنظومة الأمنية، وأعادت السؤال حول معنى الردع، فاختبرت كلّ دولة موقعها على خريطة الأخلاق والسياسة. مصر وجدت نفسها الوسيط الوحيد القادر على التحدث مع جميع الأطراف، فمدّت خيوطها نحو أنقرة وطهران والرياض في آن. تركيا قرأت المأساة الفلسطينية كفرصة لإحياء خطابها التاريخي عن المظلومية العادلة. قطر رفعت علم الوساطة إلى مرتبة النفوذ. إيران رأت في الدم دليلاً على صواب استراتيجيتها في دعم حركات المقاومة. والسعودية أعادت تموضعها في لغة الحذر، مراقبةً انبعاث التوازن الجديد من رماد الدمار.
تتكوّن الآن شبكة معقدة من المصالح والعواطف والرموز، لا تُدار بمنطق التحالفات المغلقة بل بمنطق التداخل والعبور. فكلّ دولة تمارس نفوذها عبر خطابٍ خاصٍّ بها: القاهرة تُقدّم نفسها كضابط الإيقاع، أنقرة كفاعل متحرّك بين الشرق والغرب، الدوحة كوسيطٍ عابرٍ للانقسامات، طهران كمركزٍ أيديولوجي للممانعة، الرياض كقوةٍ إصلاحية تسعى إلى قيادةٍ منضبطة، ودمشق كعنصرٍ يعود من الهامش ليطالب بموقعه في المعادلة.
هذا النسيج يُنتج نوعاً جديداً من السلطة: سلطة متداخلة، هجينة، تتغذى من المعرفة والرمز أكثر مما تتغذى من القوة المادية. لم تعد السيادة صفةً مغلقة، بل طاقة تواصل وقدرة على إنتاج خطابٍ مؤثر في الوعي الجمعي. فالدولة التي تملك لغة الإقناع ومرونة التفاهم تكتسب وزناً يعادل الدبابات والحقول. هكذا تتحول الوساطة إلى أداة ردع، والمصالحة إلى شكلٍ جديد من القوة، والخطاب إلى سلاحٍ ناعمٍ يوازي أثر النار.
تحت هذا السقف الجديد، تعيش المنطقة مخاضاً مفتوحاً. فمصر تستعد لتوازنٍ بين النفوذ التركي والمال الخليجي، وتركيا تراقب انحناءات الموجة الإيرانية، وقطر تواصل لعبتها الدقيقة في المساحات الرمادية، والسعودية تتقاطع مع الجميع في حذرٍ محسوب، وإيران تُثبّت نفسها بعمقها العقائدي والعسكري في وجه كلّ محاولات العزل، بينما تحاول سوريا استعادة بوصلتها عبر سياسة البقاء الواقعي.
كل موجة دمٍ جديدة ترفع الوعي بأن السلطة لم تعد احتكاراً للمدافع، بل فناً في إدارة الذاكرة والمعنى. المنطقة بأسرها تحوّلت إلى مختبرٍ للسلطة، تتفاعل فيه المصالح والأفكار والانفعالات، وتنتج عنه أنماطٌ متبدّلة من التحالف والمنافسة. ومع اتساع هذا المختبر، يولد زمنٌ جديد تُقاس فيه القوة بقدرة الدولة على احتواء العنف لا إشعاله، وعلى تحويل المأساة إلى لغةٍ استراتيجية تصنع معرفةً وسلطةً في آنٍ واحد.