شعور وخطاب “الهزيمة”.. هل هما واقعيّان اليوم؟

بعيداً عن شغل ومشاغلة "فرقة حسب الله" الاعلاميّة في لبنان وعلى بعض الفضائيات العربيّة؛ وبعيداً عن فلسفة "نحن هزمنا، فلماذا لا نستسلم؟"؛ أو فلسفة "لا بدّ للقاعد أن يُفتيَ للمجاهد!"؛ أو فلسفة "لنسلّم سلاحنا بلا تحرير وبلا ضمانات جدّيّة، لعلّ الغرب الدّاعم لإسرائيل أصلاً يبعث لنا ببعض الدنانير"؛ أو فلسفة "نحن تحت الاستعمار، ومع ذلك فلنبنِ (دولة) ولو كانت بلا سيادة حقيقيّة"؛ أو فلسفة "لماذا لا نطبّق تجربة الرّئيس أبو مازن، على لبنان؟"... بعيداً عن كلّ هذا الضّجيج الذي يُحاول التّشويش على من بقي يطوف من بين الحجيج، فلنتوقّف عند عوامل تجعلنا نعتقد أنّ الحديث عن "هزيمة" في هذه اللّحظة ليس واقعيّاً بالفعل.

العامل الأوّل؛ تاريخيّ وحضاريّ معاً. فمهما كثرت في الظّاهر الضّربات، ومهما تعاظمت تجلّيات وآثار الألم والفقد والابتلاء.. علينا ألّا ننسى أنّنا:

(١) شعوبٌ تدفع- في جوهر الأمور- ثمن “تخلّف” أو تأخّر- مادّيّ خصوصاً – معيّن على مستويات متعدّدة، لا سيّما بسبب سياسات رجعيّة وظلاميّة لعدد من السّلالات التي حكمت دار العرب والإسلام خصوصاً منذ القرن الثّاني عشر للميلاد تقريباً؛

(٢) وبالتّالي، فمن تجلّيات هذا الثّمن هو أنّ قوىً عالميّة استعماريّة-غربيّة عموماً لم تزل تهدف إلى السّيطرة على مواردنا وثرواتنا وأوطاننا وثقافاتنا وقرارنا، خصوصاً منذ بدايات القرن الثّامن عشر للميلاد تقريباً؛

(٣) ولذلك، فنحن لم نزل وسط صراعٍ تحرّريّ غير متكافئ مطلقاً، عبر مختلف أنواع طبقاتنا الاجتماعيّة وعبر مختلف أنواع نخبنا، مع هذا الاستعمار بمختلف تجلّياته وأسمائه (ومنها مشكلة “إسرائيل” طبعاً، إن لم تكن على رأسها جميعها كما أشرنا)؛

(٤) من هنا، عزيزي القارئ، أدعوك إلى التّركيز على الكلمات المفتاحيّة التّالية في هذا الإطار: “تخلّف” أو تأخّر – مادّيّ خصوصاً – كبير اجمالاً (قد يكون “حجمه” بين ١٠٠ و٥٠٠ سنة في بعض الجوانب ومع التّبسيط الشّديد، والمهمّ هنا هو التّذكير بأنّ هذا “الحجم” ليس صغيراً أبداً على العموم)؛ استعمار مستمرّ؛ صراع غير متكافئ اجمالاً؛ مجهود تحرّريّ تراكميّ ومتفاوت الفعاليّة؛ حروب غير متماثلة في الاجمال أيضاً. سبق وتحدّثنا حول أغلب هذه المصطلحات والمفاهيم، إن لم يكن حولها كلّها. وبسبب ما سبق عن التّأخّر الماديّ خصوصاً (بالنّسبة إلى المستعمر طبعاً)، وعن الصّراع غير المتكافئ بالمطلق.. فقد وصلنا حتّى إلى التّنبيه من “تصديق” قصّة هزيمة الـ٦٧ نفسها. حصلت وقتها هزيمة بالمعنى العسكريّ والسّياسيّ طبعاً: ولكن، بين من ومن؟ بين جهتين متكافئتَين؟ بالطّبع لا، وهنا تكمن الخديعة الكبرى والمستمرّة للأسف. ففي الـ١٩٢٥، والـ١٩٤٨، والـ١٩٦٧، والـ١٩٨٢ (إلخ.).. وصولاً إلى اليوم: نحن شعوب ونخب وكيانات مُستَعمرة، لم تزل في طور مراكمة العمل التّحرّريّ، ضمن صراع غير متكافئ اجمالاً ومن خلال حروب غير متماثلة.

الشهيدان نصرالله وقاووق يتفقدان معتقل الخيام في العام 2000

مع التّبسيط الشّديد إذن: بدلاً من سجن أنفسنا ضمن ثنائيّة “النّصر” و”الهزيمة”.. علينا ربّما في حالتنا أن نقوم بZoom Out معيّن وأن ننظر إلى خطّين بيانيَّن متخيّلَين أو ممكنَي الرّسم: الأوّل، لتأخّرنا التّاريخيّ-المادّيّ خصوصاً-ولتطوّره، لا سيّما نسبةً إلى هذه القوى الاستعماريّة؛ والثّاني، لتراكم مجهودنا التّحرّريّ ولنتائجه التّراكميّة النّسبيّة على مختلف المستويات.

العامل الثّاني؛ مفاهيميّ بشكل أساسيّ، وقد سبق أن تحدّثنا عنه خلال مواجهة لبنان السّنة الماضية خصوصاً. وهو بلا شكّ مرتبطٌ بالأوّل. باختصار شديد: بمجرّد أن تأخذ قرارك، عزيزي القارئ، بأن تكون “مقاوِماً”.. فأنت تُقرّ بأمرَين عمليّاً – وربّما بشكل ضمنيّ:

(١) أنّ هناك “تراجعاً” أو “تأخّراً” أو “هزيمةً” معيّنة قد وقعت أو هي كامنة. في أحيانٍ كثيرة، وفي حالة شعوبنا تحديداً: نعم، علينا أن نتذكّر أنّ الهزيمة.. سبق أن وقعت! ولو أنّها لم تقع بعد، فهل يُمكن أن تقسّم حدود بلادنا بهذه الطّريقة مثلاً؟ وهل يُمكن أن يكون ترامب هو من يرعى “اتّفاقات” تخصّ بلادنا، وبحضور بعض زعمائنا وقياداتنا؟ وهل يُمكن أن يكون لدينا وزير خارجيّة يقول إنّ سياستنا الرّدعيّة يجب أن تتمثّل في البكاء لدى ترامب والإدارة الأميركيّة؟ كثيرٌ منّا ينسون واقعاً، عند تقييم تجربة “المقاومة”.. أنّنا أمام هزيمة واقعة أصلاً، لا ممكنة الوقوع. ولذلك، وبسبب وقوع هذه الهزيمة: فهناك من قرّر.. أن “يُقاوم” هذا الوضع. أنت “تُقاوم” واقعاً.. قد وقع!

(٢) أنّ “الاستسلام” عندك ليس خياراً ممكناً في المبدأ. لا يجتمع خيار المقاومة في المبدأ.. مع خيار الاستسلام. وهذا أيضاً ما لا يفهمه بعض أهلنا وإخواننا في هذه الأوطان.

لذلك، هنا أيضاً، أعتقد أنّ على الكثير منّا مراجعة مفهومهم “للهزيمة”.. ضمن سياق “مُقاوِم”. مجدّداً: وفي حالتنا تحديداً، نحن أمام هزيمة تاريخيّة وحقيقيّة.. سبق أن وقعت بالفعل.

العامل الثّالث؛ تاريخيّ بشكل خاصّ، ويمكن الإضاءة عليه أيضاً من خلال مفهوم الخطّ البيانيّ إن شئت، أو المقارنة المتعلّقة بالزّمن (أو بالحقب الزّمنيّة). سبق وتحدّثنا حول هذا الجانب أيضاً، ولكن، لنعد ونسأل أنفسنا: هل تُبيّن دراسة أهمّ الخطوط البيانيّة.. “هزيمة” واقعيّة، خصوصاً في ما يعني “الخيار المقاوم” النّاشئ بشكل خاصّ عشيّة أو خلال أو بعد ذهاب السّادات إلى كامب دايفيد أواخر سبعينيّات القرن الماضي (والذي ترافق – عمليّاً – مع انفجار الثّورة الاسلاميّة في إيران)؟

(1) الخطّ البيانيّ الأوّل الذي يمكن تخيّله متعلّقٌ بما يُمكن تسميته بالوعي بأهمّيّة بل بضرورة خيار المقاومة في مواجهة كيان كـ”إسرائيل”. ماذا يقول هذا الخطّ اجمالاً؟ هل يُمكن الحديث عن اقتناع أغلب النّخب والشّعوب بخيار “كامب دايفيد” بمختلف تجلّياته.. أم بعودة الخيار النّاصريّ – أو الخيار المواجِه / المقاوِم بشكل عامّ؟ إنّ أيّ مراقبٍ موضوعيّ ومنصف لا بدّ له من الإقرار بالتّفوّق الشّعبيّ والمفاهيميّ – وحتّى النّخبويّ-المتصاعد نسبيّاً لهذا الخيار الأخير. قد تحدث بعض التّشويشات التي تقوم بها القوى الاستعماريّة، مثل تشويش الحرب السّوريّة عموماً وتقديم الأمر على أنّ هذه هي القضيّة قبل قضيّة فلسطين ربّما.. ولكنّنا نعلم جميعاً بأنّنا أمام مجرّد تشويش مؤقّت ولو طال نسبيّاً، لا يُلغي القناعة العميقة لدى النّاس عموماً.. بأنّ الخيار المقاوِم- في الأعمّ الأغلب – هو الخيار الوحيد النّاجح والمجدي لاستعادة الحقوق الفلسطينيّة والعربيّة.

إقرأ على موقع 180  "هآرتس": أمن إسرائيل القومي ينهار تحت ضربات نتنياهو!

(٢) أمّا الخطّ البيانيّ الثّاني فهو يتقاطع مع الأوّل وموضوعه تطوّر صورة ومصداقيّة المشروع الصّهيونيّ عموماً في العالم (بما فيه العالم العربيّ) من جهة؛ وصورة ومصداقيّة المشاريع المقابلة لمشروع أو مشاريع المقاومة من جهة ثانية. وعلينا أن نقرّ هنا، بأمانة، بما أنجزه “الطّوفان” وأهله بشكل عميق في هذا الإطار، أي خلال السّنتَين الماضيَتَين خصوصاً، رغم التّضحيات الكبرى التي حصلت وتحصل. يكفي في هذا الإطار أن نراقب التّراجع المريع لأرقام التّأييد لـ”إسرائيل” داخل المجتمعات الغربيّة من جهة، وتعامل ترامب ونتنياهو مع ظاهرة “أبو مازن” ومع بعض الحلفاء العرب للأميركيّين من جهة ثانية. أعتقد أنّ الكثيرين من المراقبين والزّملاء قد سبق وتوقّفوا تحديداً عند واقعة “ضربة الدّوحة”، وعمّا بيّنته من ضعف عميق للخيار المقابل لخيار المقاومة في مواجهة الاستعمار والاحتلال. بعد أن قضينا جزءاً كبيراً من عام ٢٠٢٤ نناقش سؤال بعض إخواننا العرب “أين الرّدّ الايرانيّ؟”.. أجبرتنا أحداث عام ٢٠٢٥ على نسيان هذا السّؤال كلّيّاً حفظاً للحدّ الأدنى من ماء وجهنا كعرب.

(٣) وأمّا الخطّ البيانيّ الثّالث فهو متعلّق بتراكم إنجازات أطراف وحركات المقاومة خلال هذه المدّة المذكورة تقريباً. فبالرّغم من الضّربات القاسية نسبيّاً في بعض المواضع، وبالرّغم من التّضحيات الجسام كما أشرنا، علينا ألّا نسمح لهذه المشاهد المؤلمة بتشويش الصّورة الحقيقيّة أمام أعيننا. ولنختصر هذه النّقطة بالأسئلة البسيطة التّالية:

  • هل نَعي حقّاً ما معنى صمود المقاومة في غزّة وافشالها لأهمّ أهداف العدوّ، بعد حرب سنتَين أو بالأحرى بعد حرب عالميّة وكونيّة على قطاع بحجم قطاع غزّة؟ بموضوعيّة: هل نعي معنى ذلك حقّاً؟
  • كذلك، هل نعي ما معنى التّماسك العجيب لجبهات القتال البرّيّ جنوب لبنان، خريف ٢٠٢٤، برغم الضّربات الهائلة التي حدثت في ما يخصّ القيادة والكوادر والمخازن وما إلى ذلك، وتحت قوّة نار غير مسبوقة في معارك كهذه؟ هل نعي معنى استمرار اطلاق الصّواريخ إلى عمق الكيان حتّى آخر يوم؟ أيّ دولة عربيّة استطاعت، حقّاً، أن تضرب عمق الكيان بهذه الطّريقة على امتداد شهرين من الزّمن تقريباً، وأن تهجّر عشرات آلاف المستوطنين ولمدّة كتلك المدّة؟ هل نحن منصفون وموضوعيّون حقّاً؟
  • أيضاً، هل نعي أهمّيّة ما حصل على جبهة البحر الأحمر، واضطرار الأميركيّ نفسه إلى وقف إطلاق النّار مع المقاومة اليمنيّة خلال بدايات العام الحاليّ.. عداك عن استمرار جبهة الاسناد حتّى آخر لحظة من المواجهة وبرغم أنف الدّول العظمى.. وبرغم أنف الكيان وحلفائه أجمَعين؟
  • أيضاً، هل نعي ما حصل خلال عدوان الـ١٢ يوماً على إيران، وتمكّن هذه الأخيرة مِن الصّمود أمام تحالف دول عظمى ضدّها، ومِن دكّ عمق الكيان حتّى آخر دقيقة وصولاً إلى قول الكلمة النّهائيّة في المعركة؟ حقّاً وانصافاً: من استطاع القيام بما قامت به إيران خلال ثمانين سنة من الصّراع مع هذا العدوّ ومع هذا الاستعمار؟ حقّاً: من استطاع ذلك منّا ومن الدّول الاسلاميّة؟

الأمثلة كثيرة، ولا مجال لذكرها وتفصيلها جميعاً. وهي لا تخفي طبعاً حجم الضّربات التي تلقّتها بعض الجهات المقاوِمة في عدد من الجبهات. ومن مثل ذلك “الجبهة السّوريّة” إن صحّ التّعبير، مع العلم بأنّ الطّرف الآخر لم يأتِ ببديلٍ مُقنع ومستقرّ لحكم هذا البلد. بل بالعكس، أحسّ بعض صنّاع القرار في “إسرائيل” أنّهم إنّما جلبوا دبّاً تركيّاً واسلاميّاً-راديكاليّاً معاً إلى كرمهم (كانوا بغنى عنه إلى حدّ كبير بحسب رأيهم، خصوصاً من زاوية “الأمد الطّويل” Long Term في الصّراع مع مكوّناتنا ومع شعوبنا).

ولكنّ الفكرة الأساسيّة لهذه الورقة باتت واضحة على ما أرجو: إنّ سجن النّفس والذّهن- والقلب- اليوم في ثنائيّة وهميّة بين “النّصر” و”الهزيمة”.. فيه خطأ جسيم، خصوصاً عل المستوى التّاريخيّ وعلى المستوى الحضاريّ العامّ. بل إنّ تراكم جهدنا النّضاليّ التّحرّريّ العامّ.. قد يكون يُدنينا أكثر فأكثر، ولو بشكل نسبيّ، من “نصر” حقيقيّ ومرجوّ.

لذا، عزيزي القارىء، أن تشغّل عقلك النّقديّ في مواضيع معيّنة، بهدف تقييم تجربة ماضية أو حاليّة معيّنة، أو بهدف الإضاءة على إخفاقات أساسيّة معيّنة خلال معركة عسكريّة أو أمنيّة معيّنة، أو حتّى بهدف تقييم “هزيمة” معيّنة في حرب أو في مواجهة متكافئة معيّنة (إلى ما هنالك).. كلّها توجّهات محمودة بل وضروريّة أحياناً. ولكنّ تصوير لحظة معيّنة من مواجهة شعوبنا العربيّة والاسلاميّة-المواجهة غير المتكافئة بتاتاً بالمعنى المادّيّ – مع الاستعمار وأداته المركزيّة “إسرائيل”، على أنّها لحظة “هزيمة”، ومهما كانت التّبريرات.. فهو أمر مؤذٍ، بالإضافة إلى كونه غير واقعيّ. وأرجو أن نتحاور بهدوء وبموضوعيّة حول الموضوع، من أيّ فريق أو توجّه كنّا.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  حبذا لو نُنزِل تاريخنا العربي "المقدس" من عليائه!