لبنان بين الكيانيّة والوطنية.. مخاطر داهمة

هل لديْنا في لبنان "وطنيةٌ لبنانيةٌ"حقَّاً ؟ السؤال صادمٌ فعلاً. يفرِضُ هذا السؤالُ نفسَه فكرياً وسياسياً وتاريخيَّاً.

هناك وطنيون لبنانيون حلموا وناضلوا من أجل بلورة الفكرة الوطنية اللبنانية، لكن ذلك لم يحصلْ. أولئك الوطنيون أدركُوا أنَّ التحوُّلَ الإستراتيجي بعد تنفيذ اتفاقية سايكس- بيكو [1916] قسَّمَ المنطِقةَ العربيةَ إلى كيانات، وكان بينها الكيانُ اللبناني [1920]، ورَأوْا وجوبَ إيقافِ محدلةِ التقسيم، والتعامل بوعي واقعي من أجل إعادة غرْس فكرة الوطن والدولة. ولقد كان الفارقُ بين إنشاء” لبنان”، وإكمالِ الإجهازِ على فلسطين، وإقامةِ الكيانِ الإسرائيلي نحوَ ثلاثةِ عقود [28 سنة].

هنا تبرزُ المفارقة الساخرة والمأسويّة، وهي أنَّ المحتلَّ الإسرائيلي صمَّم على تحويل كيانه إلى “وطن” و”دولة” بالاغتصاب والتوسُّع ، وبالعنصريَّة والجرائم الإباديَّة، وبتزوير التاريخ وأسطرَتِهِ توراتيَّاً. أمَّا أبناءُ “لبنان” فلم يسْعوْا إلى تحويل الكيان إلى وطن ودولة، ولهذا طغتِ الكيانيةُ على الوطنيةِ، وما زالت مستمرَّة حتى الآن بعد مئةٍ وخمسة أعوام [1920-2025]. تلك كارثةٌ مُحقَّقة. يتحمَّلُ مسؤوليتَها – وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة – كلُّ القوى التي تشاركتِ السلطةَ! منذ عهد المفوَّض “السامي” الفرنسي حتى اليوم في عهد المفوَّض “السامي” الأميركي. لم تكن لديهم أي إرادة لبناء وطن ودولة. كانوا يريدون استساخ الكيانِ اللبناني وتحويله إلى كياناتٍ داخلية طائفية، تقوم على التناحر، وتراهن على الخارج. وإذا كان المؤرخون يروْنَ أنَّ “المارونيّة السياسية” هي أولى هذه القوى الكيانيّة، فإنَّ نشوءَ شبيهِها لدى الطوائف الأخرى، جعل لبنان اتحادَّاً فيدراليّاً مُقنَّعاً بين الطوائف، ودكَّاناً مفتوحاً على البحر والبرِّ، وبناءً مُهدَّداً بالتقسيم ِوالانقسام ِفي كلِّ مرحلةٍ تتغيَّرُ فيها الموازينُ الإقليميّةُ والدوْليّةُ، ويشتدُّ تقاطعُ العواصف من الشرق والغرب، ومن كثيرٍ من القوى السلطوية العربيَّة. جميعُ هؤلاء وقفُوا في وجهِ كلِّ محاولات بلورة فكرة الوطن والدولة في لبنان، إضافةً إلى الإقطاع السياسي المحلِّي المتحالف مع البرجوازية الكومبرادورية، وكلاهما يخدمان مصالحَهما الطبقية، ويتحالفانِ من أجل إدارةِ “الكيانات” في “الكيان اللبناني” فيما فقراء الطوائف المخدوعون بأكاذيب الحماية الطائفية – إلَّا القليلين منهم- يدفعون الأثمان القاتلة.

ربّما نحتاجُ إلى مبادرةٍ جريئةٍ واستثنائيةٍ من رئيس الجمهورية يدعو فيها إلى مؤتمرٍ حواريٍّ عاجلٍ تُرْسَمُ فيه سياساتٌ تَسوويةٌ وطنيةٌ داخليةٌ وخارجيةٌ على قاعدةِ وعْيِ مخاطرِ العدوِّ الإسرائيلي الذي يهدِّدُ الجميع. لعلَّ الوطنيةَ تنتصرُ على الكيانية فنحمي لبنان واللبنانيين قبل فوات الأوان.

 هذه “الكيانيَّةُ” ما زالت قائمة. ازدادتْ فظاعةً في المرحلة الراهنة، ولا سيّما بعد العدوان الإسرائيلي. وواصلتْ منهجها في صناعة سلسلةِ تزييفاتٍ في الوعي العام. بعضُها كشفَ عن وجههِ بأشدِّ حالات السفور. وبعضها صامت متحايل يترقَّب الظروف. ولا مبالغة في ذلك، فالعدوان الإسرائيلي على لبنان لم يُكوِّنْ عند هؤلاءِ فكرةَ أنَّ “إسرائيل” عدوٌّ تاريخي. وبرغم ما ارتكبَتْهُ “إسرائيل” فهم يواصلون تحميل المقاومة المسؤولية، ويتناسوْنَ أنَّ الاعتداءات الإسرائيليَّة بدأت في الأربعينيات [وقبلها المنظمات الصهيونية في العشرينيّات والثلاثينيَّات] قبل قيام المقاومات الشعبية في الجنوب، وقبل ظهور المقاومة الوطنية ثم المقاومة الإسلامية. وفوق هذا يُضلِّلون الناس بالدعوة إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني زاعمينَ أنَّ التطبيع يجلِبُ الازدهار للبنان من دون أن يقرأوا ما حصل في مصر والأردن، وما يحصل الآن في سوريا بعدما أبلغَ مَنْ يُسمَّى رئيسَ سوريا ، أحمد الشرع ، المبعوثَ الأميركي بموافقة سلطتهِ على إقامة علاقاتٍ طبيعيةٍ معَ “إسرائيل” التي تحتلُّ الجنوبَ السوري وتقِفُ على أبوابِ دمشق، وتدير مع تركيا الأردوغانيَّة مطحنة الدماء بين السوريين.

أليستْ هذه الصورةُ كافيةً لقراءةِ ما خلفَها؟ أمْ إنَّ غالبيةَ القوى النافذةِ في لبنان تريد اجترار الماضي بكلِّ مآسيه؟ الوضعُ أخطرُ ممَّا تروِّجُ له هذه القوى. إنَّه شبيهٌ بمرحلةِ 1982، والعدوُّ الإسرائيلي طامعٌ دائماً بالتوسُّع، ومراهنٌ على الانقسام الداخلي، وعلى تغليبِ الكيانيةِ على الوطنيّة، فيما آلتهُ الإعلامية تُحرِّضُ بالاشتراك معَ بعض الإعلام المحلِّي على المقاومة، وعلى فكرة المقاومة بذاتها لا على حزب االله وحدَه. ويتجاهلُ عمْداً أنَّ المقاومة نتيجةٌ لا سبب.

الغرب الاستعماري بقيادةِ الولاياتِ المتحدةِ مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا يقدِّمُ لكيان الاحتلال الغطاء السياسي والاستخباري والإعلامي. وبات من الغباء، ومن الخبثِ المخيفِ أن يفصلَ أحدٌ بين المبعوثين الأميركيين إلى لبنان وبين البرنامج التوسُّعي العُدواني الإسرائيلي. وبإزاءِ هذا الوضع نرصُدُ المخاطر الداهمة على لبنان، في المنظور القريب إذا لم تمتلك الدولة شجاعة حماية نفسها ، كي تتمكَّن من إدارة حوارٍ داخلي تسووي غيرِ مشروطٍ، ويهدِفُ فعلاً إلى بلورةِ فكرةِ الوطنيّةِ بديلاً منَ “الكيانية” و”الكيانات”.

معضلة الحوار قديمة في لبنان. خلال حربِ السنتين أُنشِئتْ هيئة الحوار الوطني. وفجَّرها اليمين الطائفي اللبناني الذي استبطن الكيانية، واتهم الآخرين بالتبعيّة لما سمَّاه آنذاك بـِ “اليسار الدولي” وفقاً لتعبير الراحل بيار الجميّل. واليوم يتكرَّرُ المنطق نفسه لنعطيل الحوار الوطني؛ هجوم على المقاومة، وإعفاء لإسرائيل، وانبطاح أمام الأميركيين، وأوهام خلف الفرنسيين، وزحفٌ أمام المال الخليجي.. إلخ، وشعارٌ خطيرٌ يتلخَّصُ بكلماتٍ قليلات: “تسليم سلاح المقاومة” قبل أيِّ حوار. [التعبير مقتبس من كلام رئيس حزب الكتائب سامي الجميل ورئيس القوات ” اللبنانيّة” سمير جعجع تبعاً لِتفسيرِهما مع بعض القوى الأخرى مبدأ حصر السلاح بيد الدولة]. وهذا هو بالضبط المطلب الأميركي- الإسرائيلي. وهنا تبرز الملاحظات الآتية:

  • الولايات المتحدة لا تريد دولة في لبنان بل سلطة تقوم على القهر والإقصاء. [تذكَّروا كلام كل المبعوثين الأميركيين وأوضحهم كانت مورغان أورتاغوس].
  • الإقصاء والقهر يعنيان حرباً داخلية جديدة، من أجل تكريس هيمناتٍ كيانية تتناحر على الدوام كما تريد إسرائيل.
  • أين يذهب هؤلاء بجمهور المقاومة؟ وكيف يفهمون الحوار؟ إنهم يظنُّون أنَّ لبنان يمكن أن يستمرَّ بالقهر؟ إنهم يقفلون الباب أمام السياسة ويتجاهلون أنَّ المقاومة أبدت ليونة مميزة تجاه مسألة الحوار والسلاح. وفي هذه النقطة يُسجَّلُ لرئيس الجمهورية موقف عقلاني أكثر من رئيس الحكومة.
  • كلُّ المعلومات تؤكِّدُ أنَّ رئيس الجمهورية يريد معالجة مسألة السلاح بالحوار لا بالقوة ولا بالإقصاء، لكن واشنطن هي التي تضع العراقيل، وربّما تُقْدِمُ على تخريب عهد الرئيس جوزيف عون إن هو استمرَّ بمبدأ الحوار.
إقرأ على موقع 180  النرجسية والسادية في حكم لبنان.. "إنني أتهم"

أمام هذا الصورة الخطيرة ترتكز واشنطن وإسرائيل على “الكيانية” موقفاً وأسلوباً، وتهدِّدان لبنان. ربّما نحتاجُ إلى مبادرةٍ جريئةٍ واستثنائيةٍ من رئيس الجمهورية يدعو فيها إلى مؤتمرٍ حواريٍّ عاجلٍ تُرْسَمُ فيه سياساتٌ تَسوويةٌ وطنيةٌ داخليةٌ وخارجيةٌ على قاعدةِ وعْيِ مخاطرِ العدوِّ الإسرائيلي الذي يهدِّدُ الجميع. لعلَّ الوطنيةَ تنتصرُ على الكيانية فنحمي لبنان واللبنانيين قبل فوات الأوان.

 

Print Friendly, PDF & Email
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  خطط ترامب التهجيرية.. نتائجها العكسية كارثية أمريكياً