

تاريخياً، ترسخت الزعامة في لبنان منذ العهد العثماني، عندما تحوّل الزعماء إلى وسطاء بين السلطة والمجتمع، مستغلين نفوذهم لتحقيق مصالح شخصية وعائلية. ومع الاستقلال، حافظ الزعماء على دورهم عبر استغلال الولاءات الطائفية والعائلية. وبفضل قدرتهم على التكيّف والتحكّم في الموارد، استمرت هذه الزعامات قوية برغم كل التحولات السياسية والاجتماعية.
لم يكن اتفاق الطائف في العام 1989 قطيعة مع الزعامة، بل نقطة استمرارية وإعادة شرعنة لها. فبَدَل أن تكون قوة خارج الدولة، أصبحت الزعامة فاعلاً رسمياً يمارس سلطته، من داخل البرلمان والحكومة والإدارة، عبر المُحاصصة. وبرغم تغير الأدوات بقي جوهر الزعامة قائماً على استغلال السلطة لبناء شبكات ولاء شخصية وعائلية. وهذا الأمر يكشف هشاشة الدولة اللبنانية التي فشلت في تجاوز منطق الزعامة التقليدية. فالعلاقة بين الشعب والزعامات قائمة على الولاء والمصالح المشتركة، وهو ما يضمن استمرار هذه العلاقة وإدامة الأزمات السياسية والاقتصادية في لبنان.
إعادة إنتاج الزعامة الطائفية
الأزمة اللبنانية هي نتاج علاقة معقدة بين المواطنين والزعامات الطائفية في ظلّ غياب الشعور بالوطنية الجامعة. فاللبنانيون ينظرون إلى وطنهم كـ”غنيمة” يجري تقاسمها وليس كمشروع يستحق البناء والتطوير. وبرغم ارتفاع مستوى التعليم والثقافة، يظهر الشعب اللبناني انفصاماً سياسياً حاداً. فالولاء للزعيم الطائفي يصبح فوق أي اعتبار وطني أو عقلاني. المواطن يساهم بشكل مباشر في استمرار الطائفية عبر دعم الزعماء أو السكوت عن فسادهم ليصبح بذلك شريكاً في إعادة إنتاج الأزمة. إن العلاقة بين الزعيم والمواطن متبادلة: المواطن يعزّز سلطة الزعيم، والزعيم يستخدم ولاء المواطن لتحقيق مصالحه.
تُعتبر الزعامة اللبنانية نموذجاً فريداً في علاقتها بالمال والاقتصاد، فالزعيم ليس مجرد شخصية سياسية، بل هو في الأساس مشروع اقتصادي يهدف إلى تحقيق مصالح شخصية وعائلية. والمواطن اللبناني- بحكم خبرته- يدرك أن الحصول على وظيفة في القطاع العام، أو تسهيل معاملة رسمية، أو حتى الحصول على خدمة أساسية، غالباً ما يتطلب وساطة “زعيمه” أو نائبه. وهذا يغذي العلاقة الزبائنية، حيث يتحول الولاء السياسي إلى عملة لشراء الخدمات. على سبيل المثال لا الحصر: قد يصوّت المواطن لزعيم ما ليس لقناعته ببرنامجه بل لأنه يمتلك نفوذاً في وزارة معينة أو مؤسسة حكومية، ما يضمن له- أو لأحد أفراد عائلته- فرصة عمل. هذا النمط من الحكم أوجد اقتصاداً ريعياً قائماً على المحسوبية، فالشركات لا تزدهر إلّا إذا كانت مرتبطة بجهة سياسية نافذة، ما يمنع المنافسة الحرّة ويقوّض النمو الاقتصادي المُستدام. وبدلاً من الثورة على هذا الواقع يستمر المواطن في الانخراط في هذه اللعبة لأنه يرى فيها الطريقة الوحيدة للبقاء والعيش والترقي.
أدوات النفوذ الخارجي
تاريخياً، لم تكن الزعامات اللبنانية مجرد قوى محلية بل كانت أيضاً أدوات للنفوذ الخارجي، وهو ما يقبله الشعب ضمناً أو صراحةً. فكل زعيم طائفي غالباً ما يرتبط بدولة إقليمية أو عالمية تدعمه سياسياً ومالياً. هذه العلاقة المتبادلة تضمن للزعيم استمرارية سلطته وتوفير الموارد اللازمة لشراء الولاءات، بينما تضمن للدولة الراعية وجود موطئ قدم لمثل تلك العلاقة في المشهد السياسي اللبناني. هذا الارتباط الخارجي يفسر جزءاً من التجاذب السياسي الحادّ في لبنان، حيث تصبح الأزمات الداخلية إلى امتداداً لصراعات إقليمية. وبدلاً من أن يطالب المواطن بإنهاء هذا التبعية نجده يبرّر موقف زعيمه على أساس الولاء الطائفي أو المذهبي. على سبيل المثال: يرى المواطن أن زعيمه “وطني”، لأنه يتلقى الدعم من دولة معينة، بينما يصف زعيم طائفة أخرى بأنه “عميل” لأنه يتلقى الدعم من دولة أخرى. هذا التبرير يمنع أي حراك شعبي موحّد ضدَّ التدخلات الخارجية، ويجعل الأزمات السياسية قابلة للتأجيج في أي لحظة.
التوريث والولاء
من أبرز سمات الزعامات اللبنانية قدرتها على التوريث وتجديد شبابها عبر الأجيال، وهو ما يباركه لها الشعب غالباً. فالزعامة ليست منصباً يُكْتَسَب بالكفاءة بل إرث عائلي ينتقل من الأب إلى الإبن، أو من الأخ الأكبر إلى الأصغر وأحياناً من الزوج إلى الزوجة. هذا النمط يضمن استمرارية العائلات ذاتها في الحكم لعقود طويلة مع إدخال وجوه شابة جديدة تحت مظلة الزعامة القديمة. وتكشف هذه الظاهرة كيف أن النظام السياسي مغلق على فئة محدودة، ويمنع ظهور قيادات جديدة قادرة على إحداث تغيير حقيقي على الرغم من فشل هذه العائلات في إدارة الدولة وتدهور الأوضاع. في المقابل، يستمر الشعب في إعادة انتخاب هذه الفئة، معتقداً أن الولاء العائلي والطائفي أهم من الكفاءة. هذا التوريث لا يعزّز قوة العائلة الحاكمة فقط بل ويضمن أيضاً أن تظلَّ شبكات الولاء والمحسوبية قائمة، مع استمرار الأنماط نفسها من الفساد وسوء الإدارة.. وهذا ما يوقع الشعب في حلقة مُفرغة من الأزمات.
ضعف الدولة يجعل المواطن يعتمد على الزعيم المحلي كبديل.. والبعد الثقافي والسياسي للذاكرة الجمعية تجعله يعيش ضمن شبكة معقدة من الذكريات والصراعات الطائفية التي تجعل الولاء للزعيم أمراً وجودياً
هنا تبرز ظاهرة أن تحالفات الزعماء والطوائف لا تعكس صراعات أيديولوجية بل صراع على الغنائم يمتد إلى الزواج والمصاهرة، ويؤسس شبكة مصالح مترابطة بين الطوائف، تكون في الوقت نفسه مرتبطة بخطاب طائفي، بهدف تحفيز مشاعر الخوف والولاء لدى أتباعهم، ما يضمن لهم تعزيز سلطتهم ويحول دون ظهور قيادات بديلة. إن تعقيد الشبكات الطائفية يؤدي إلى تعطيل الإصلاح، ويعيق قدرة الدولة على إدارة الأمور بعيداً عن حماية مصالح النخب الحاكمة.
الانتماء الطائفي
يُشكل الانتماء الطائفي والإثني الأساس الذي يُبنى عليه حكم الزعيم المحلي. فالمواطن اللبناني غالباً ما يقيّم أداء زعيمه بحسب قدرته على حماية مصالح الطائفة أو المجموعة الاجتماعية، وليس على أساس الكفاءة أو الشفافية. وهذا الانتماء يولّد تمييزاً مزدوجاً: “زعيمي شريف وزعيمك فاسد”.. والأزمات الاقتصادية والسياسية تُفسر دائماً على أنها نتيجة أخطاء أو فساد الزعماء الآخرين.
يُعطى المؤرخ جورج قرم بُعداً مؤسساتياً مهماً، إذ يرى أن الدولة اللبنانية ضعيفة وهشَّة، وتعجز عن تقديم الخدمات أو حماية الحقوق بشكل متساوٍ. ضعف الدولة يجعل المواطن يعتمد على الزعيم المحلي كبديل عن الدولة. وهنا يصبح تمجيد الزعيم منطقياً، فهو الشخص القادر على ضمان مصالح الطائفة في مواجهة الفشل المؤسسي العام. بالتالي، إن لوم الآخرين ليس مجرد شعور شخصي بل انعكاس لفشل الدولة في إقامة مؤسسات مستقرة وشفّافة.
أما المؤرخ فواز طرابلسي فيرى أن البعد الثقافي والسياسي للذاكرة الجمعية للشعب اللبناني يجعله يعيش ضمن شبكة معقدة من الذكريات والصراعات الطائفية التي تجعل الولاء للزعيم أمراً وجودياً. فتمجيد الزعيم واتهام الآخرين بالفساد هو جزءٌ من آلية إعادة إنتاج الولاء الاجتماعي والسياسي. حتى الأزمات الاقتصادية تُفَسَّر غالباً ضمن الانتماءات الطائفية، وهو ما يفسر أسباب استمرار هذا النمط عبر الأجيال.
هذا الميل لتمجيد الزعيم واتهام الآخرين بالفساد هو نتيجة تركيب مُعقّد بين الانتماء الطائفي، وهشاشة الدولة، والذاكرة السياسية، ودور الزعيم كحامي للمجموعة. هذا الميل ليس عاطفياً فحسب، بل منطقياً ضمن البُنية السياسية والاجتماعية اللبنانية، ويستمر عبر الأجيال بسبب استمرارية هذه الهياكل المؤسسية والثقافية.
استمرار الولاءات الطائفية، واستغلال الزعماء للمواطنين عبر خطاب التحريض والطائفية، يجعل من الصعب إحداث تغيير جذري في النظام السياسي اللبناني. علاوة على ذلك، يساهم المواطن اللبناني بشكل غير مباشر في استمرار هذه الحلقة من خلال إعادة إنتاج الزعامة الطائفية، ما يحوّل لبنان إلى ساحةٍ لصراع على الغنائم الطائفية بدلاً من أن يكون وطناً للاستثمار والتطوير والمواطنة.