منذ سنة وحتى يومنا هذا، يجتهد الطرفان المعنيان، أي حزب الله وإسرائيل، في تفسير هذا الاتفاق، كلٌّ حسب مصلحته. فعلى سبيل المثال، تتخذ إسرائيل البند رقم (٤) والذي يتناول “حقّ الدفاع عن النفس” للطرفين ذريعة لاستكمال احتلال النقاط الخمس في جنوب لبنان والعمل على توسيعها ومنع أهل الجنوب من العودة إلى قراهم، وفي استكمال اعتداءاتها شبه اليومية على الجنوب والبقاع وصولاً إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، بذريعة “حق الدفاع عن النفس”.
في المقابل، يعتبر حزب الله أنه قام بتنفيذ ما عليه في الاتفاق في ما يتعلّق في تسليم السلاح إلى الدولة اللبنانية من خلال الالتفاف على البند رقم (٧) في الفقرتين (ب) و(ج) والتي تتحدث عن بدء الدولة اللبنانية عملية نزع سلاح الحزب بدءا من جنوب الليطاني ومنع إعادة انتشار أي قوة أو سلاح خارج الشرعية الرسمية، أي الدولة اللبنانية. ومع أن الاتفاق يتحدث بوضوح وصراحة في بنوده عن نزع السلاح على كامل الأراضي اللبنانية بدءاً من جنوب الليطاني، ويؤكد على ضرورة تنفيذ كل القرارات الدولية السابقة لا سيّما ١٥٥٩، يرفض الحزب هذا الأمر ويعتبر أن عبارة “بدءاً من جنوب الليطاني” تعني من “جنوب الليطاني إلى الحدود مع فلسطين المحتلة” وليس من منطقة جنوب الليطاني التي تبدأ من الحدود إلى منطقة شمال الليطاني ثمّ إلى كلّ الأراضي اللبنانية. هنا أيضا، تتخذ إسرائيل التفسير الخاص الذي يصرّ عليه حزب الله كذريعة إضافية (ولو أنها لا تحتاج إلى ذرائع) لتسويق احتلالها واعتداءاتها على أنها “دفاع عن النفس” كما ذكر في البند (٤).
هنا، لا بدّ من التذكير بالسياسة الجديدة التي بدأت إسرائيل في تطبيقها بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٣ والتي تقوم على “الحرب الاستباقية” أي أن إسرائيل باتت تعطي لنفسها الشرعية في ضرب ما تعتبره “أي تهديد محتمل” بدل انتظار وقوعه وهو ما تقوم به في لبنان وغزة والضفة الغربية وسوريا وغور الأردن.. وحتى في إيران.
تغيير الحدود
بالطبع، لم تكن إسرائيل لتتصرف في لبنان، كما تفعل منذ سنة، لولا اختلال موازين القوى لمصلحتها، بعدما كان حزب الله قد نجح طوال 24 سنة من فرض ذلك التوازن الردعي. وفّر ذلك إسرائيل فرصة ذهبية لتطبيق حلمها الأكبر في لبنان أو بالحدّ الأدنى القضاء على كلّ أشكال المقاومة وإبرام تسوية مع لبنان. فلبنان خسر الحرب، وتوازن الردع الذي بنى على أساسه الحزب أهمية سلاحه في مواجهة الاحتلال سقط بفعل عوامل عدة أهمها الخرق الداخلي الذي تثبت الوقائع أنه لم تتمّ معالجته بعد. والخسارة هنا ليست وجهة نظر، بل حقيقة مثبتة على الأرض مهما حاول الحزب الالتفاف عليها أو تجميلها أو حتى اعتبارها أمام بيئته شكلاً من أشكال “الصمود” في مواجهة الاحتلال.
في هذا الإطار، أفتح النقاش في هذا المقال على واقع خطير في ما يخصّ السيادة اللبنانية والحقّ اللبناني في أرض الجنوب، وهو ما يتعلّق بمحاولة إسرائيل المستمرّة لتغيير الحدود مع لبنان من خلال الاتفاقيات الدولية وقد نجحت في ذلك شكليّا منذ فرض القرار الدولي الرقم ١٧٠١ بعد حرب تموز (يوليو) ٢٠٠٦، وهي اليوم تحاول تكريسه كأمر واقع بفعل نتيجة الحرب الأخيرة. فكيف ذلك؟
ينطلق لبنان الرسمي في أي نقاش حول حقه في أرضه مع الاحتلال الإسرائيلي من الحدود الدولية مع فلسطين المحتلة التي أقّرتها “لجنة بوليه–نيوكمب” في العام ١٩٢٣، وأودعتها لدى عصبة الأمم، أي أنها تشكّل إطارا قانونياً دولياً معترفاً به، حدّد المساحة الجغرافية للبنان وكرّس حقّه في الدفاع عنها. بهذا المعنى، شكّلت اتفاقية الهدنة في العام ١٩٤٩مظلّة سياسية وقانونية تحمي الحدود اللبنانية، حتى في ظلّ استمرار الاحتلال الإسرائيلي.
وعند توقيع اتفاقية الهدنة في العام ١٩٤٩ بين لبنان وإسرائيل، اعتمدت بطبيعة الحال هذه الحدود الدولية. وفي حين تشير الوثائق إلى التزام “شبه مقبول” لإسرائيل في هذه الاتفاقية آنذاك، بدأ التحوّل الأوّل في مقاربة إسرائيل للقضية مع لبنان في ستينيات القرن الماضي، حيث أعلنت إسرائيل في العام ١٩٦٧ عدم اعترافها باتفاقية الهدنة بعد النكسة ولاحقاً بعد اتفاق القاهرة في العام ١٩٦٩ بين الجمهورية اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، والتي بموجبها تم تشريع العمل الفدائي للفلسطينيين انطلاقاً من لبنان. وبرغم ذلك، ما يزال لبنان كما الأمم المتحدة يعتبرون حتى يومنا هذا اتفاقية الهدنة منطلقاً أساسياً وقانونياً في الصراع مع إسرائيل ومنطلقاً لأي اتفاق أو تسوية بين الطرفين.
“الخط الأزرق” ثابت أم مؤقت؟
منذ تحرير جنوب لبنان في العام ٢٠٠٠ وصولاً إلى القرار الدولي الرقم ١٧٠١ الذي أنهى حرب الـ 33 يوماً في صيف ٢٠٠٦، يمكن الحديث عن بداية تحوّل تدريجي وخطير تمثّل في الانتقال من حتمية الإقرار بالحدود الدولية للبنان إلى تكريس خطوط ميدانية ظرفية، أبرزها «الخط الأزرق»، ومحاولات تحويلها إلى حدود فعلية جديدة، ولو على حساب الأراضي اللبنانية نفسها. فمع انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي في العام ٢٠٠٠، أعلنت الأمم المتحدة عمّا يعرف بـ”الخط الأزرق” كخطّ انسحاب لجيش الاحتلال وليس خط الحدود الدولية بسبب استمرار إسرائيل في احتلال ١٣ نقطة على الحدود منها مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. إذاً، اعتمدت الأمم المتحدة “الخط الأزرق” كأداة عمل ميدانية لضبط وقف إطلاق النار والتحقق من الانسحاب.
غير أنه تدريجياً، بات هذا الخط الذي لا يتطابق مع الحدود الدولية المعتمدة في العام ١٩٢٣ منطلقاً لأي حديث عن مفاوضات بين لبنان وإسرائيل حول ترسيم الحدود بينهما، ما يطرح علامات استفهام حول أن يصبح قبوله تدريجياً تنازلاً عمليّاً عن أجزاء من الأرض اللبنانية، أو على الأقل يُحوّل الاحتلال من مسألة محسومة قانونياً إلى مسألة خلاف حول تفسير الخطوط.
ففي العام١٩٤٩، ربطت اتفاقية الهدنة الوضع العسكري بالحدود الدولية المتفق عليها عام ١٩٢٣، في حين أن القرار ١٧٠١ الأول (2006) ربط الوضع العسكري بخط الانسحاب أي “الخط الأزرق”، وترك كل الاحتمالات مفتوحة حول باقي الأراضي حين تمّت الإشارة في نصّ القرار إلى “النظر فيها” لا سيّما بسبب الخلاف مع سوريا أيضاً حول هوّية مزارع شبعا.
اليوم، تحتلّ إسرائيل ٧ نقاط في جنوب لبنان ضمن “الخط الأزرق”، وهنا لا بدّ من التذكير بالهدف الذي أعلنت عنه في بداية الحرب في العام الماضي عندما تحدث بنيامين نتنياهو بشكل علنيّ عن إقامة منطقة عازلة مع لبنان داخل الأراضي اللبنانية. هذا الواقع يفتح النقاش حول مشروع إسرائيل في تغيير الحدود مع لبنان حتى بما يتجاوز “الخط الأزرق”، إذ أنه لمن يعرف العقلية الإسرائيلية، ليس من باب الصدفة أن تسمح إسرائيل بين الحين والآخر لمستوطنين بدخول الأراضي اللبنانية تارة أو بنشر حملات دعائية لمشاريع مستقبلية على أرض الجنوب تارة أخرى.
تحسين شروط أم السفوط الكبير؟
إذاً، كيف يواجه لبنان هذه المخاطر وهذا المشروع تحديداً؟
للإجابة عن هذا السؤال، لا بدّ من البدء من الطرف الأول المعني في هذه القضية وهو حزب الله وموقفه من قرارات الدولة اللبنانية الرافض لتسليم السلاح ومحاولة الالتفاف عليه تحت عنوان “البحث في الاستراتيجية الدفاعية في مراحل لاحقة”. وتشير الوقائع إلى أن الحزب غير قادر في هذه المرحلة ليس فقط على مواجهة الاحتلال وحماية لبنان، بل هو أيضاً غير قادر على حماية بنيته من القاعدة إلى أعلى الهرم.
في المقابل، بدأت إسرائيل ما يعرف بـ”الخطة ب” في تصعيدها ضد الحزب، وذلك من خلال رفع وتيرة ونطاق ونوعية استهدافاتها في الجنوب والبقاع والضاحية، وهي تهدّد بعودة الحرب مع لبنان في حال فشلت الدولة اللبنانية في نزع سلاح الحزب خلال فترة زمنية قصيرة أو حتى الانتهاء من المرحلة الأولى لخطة الجيش اللبناني في نهاية هذا العام.
في المقابل، توجّه الدول العربية المعنية بالملف اللبناني نصيحتها الأخيرة إلى الدولة اللبنانية كما إلى الحزب بضرورة تطبيق قرار الحكومة وبيانها الوزاريّ، وتُحذّر من أن أي جولة حرب جديدة سوف تؤدي بحسب الوقائع إلى خسائر إضافية، كالحدود مثلاً، وإلى فرض معادلات جديدة على حساب لبنان.
إسرائيل تريد لبناناً مهزوماً بشكل كليّ على طاولة أي مفاوضات. حتى الآن ما يحمي لبنان من التفلّت الإسرائيلي هو القرار الأميركي والغطاء العربيّ. فهل من يسمع ويتعظ؟ وهل موقف موقف الحزب يجب وضعه في سياق التصعيد الأخير لمحاولة تحسين الشروط قبل التفاوض، أم قبل “السقوط الكبير”؟ وهل يمتلك أساساً ترف وضع الشروط والمناورة؟
