المَحفظَة 

في قعدة بصالون النادي، اجتمع عدد من الأشخاص الذين جاوز أغلبهم سن المعاش؛ يتبادلون الأخبار والمُستجِدَّات. انبرى أصغرهم عمرًا يقول إن الكثير من عملائه طلبوا تسييل محافظهم. جاء موقعي على مقربة من المجموعة ووصلتني الأصوات المتقاطعة في وضوح؛ صوتٌ يؤكد أن العملاء على حقّ فلا ضمانات بشأن الآتي، وآخر يسأل عن معنى الكلام، وثالث يستفسِر عن النتائج، ورابع يعترف بأنه فعلَ المِثل؛ فالأحوال من سيءٍ إلى أسوأ ووجود المالِ اللازم لتسيير الحياة ما انفجرت الأزمة؛ أمرٌ لا غِنى عنه.

المحفظة اسم مكان من الفعل حفظ، الفاعل حافظ والمفعول به محفوظ، أما المصدر فحِفظ بتسكين الفاء. ثمَّة محفظةٌ للنقود وتلك باتت أغلب الأحوال خاوية وأسهم في خوائها عاملان؛ أولهما، تردّي الأحوال الاقتصادية، وثانيهما، انتشار البطاقاتِ الإلكترونية، وثمَّة مَحفظةٌ للأوراق عادة ما تكون بلاستيكية؛ تستبقي ما بداخلها مفرودًا وصالحًا للاستعمال.

***

من مُشتقَّات الفِعل حَفَظَ أسماء عدة؛ أشهرها “نجيب مَحفوظ” الكاتب المصري ذو المقام الرفيع وصاحب جائزة نوبل في الأدب، والمخرج “اسماعيل عبد الحافظ” الذي قدَّم مسلسل “ليالي الحلمية”؛ أحد أعظم الأعمال الدرامية التأريخية لفترة الانفتاح، والكاتب “محفوظ عبد الرحمن” الذي ألّف المسلسل التاريخي الشهير “بوابة الحلواني”، وهناك أيضًا “حافظ ابراهيم”، الشاعر المُفوَّه الذي وضع قصيدةَ “مصر تتحدث عن نفسها”، أما بالنسبة للنساء؛ فندر أن توجدَ بينهن من تدعى “حافظة” أو “محفوظة”.

***

إذا امتنع الواحدُ عن رَفعِ صَوته؛ فقد حَفظَ كياستَه وأدبَه، وإذا امتنع عن التَّبذير واقتناءِ التوافه؛ فقد حَفظَ مالَه وزاده، وإذا تجنَّب استخدام لفظٍ جارحٍ؛ فقد حَفظَ لسانَه وعَصمَه، أما إذا امتنع عن الوُقوف في وَجه ظالم؛ فقد حفظ سَلامته وأضاع شَرَفَه.

***

كان كتابُ المَحفوظاتِ من المُقرَّرات الأساسية خلال المرحلة الابتدائية. أناشيد متنوعة مسجوعة يسهل ترديدها على ألسنة الصغار. تحوَّلت المَحفوظات المُبهِجة إلى مَصدر إدانةٍ وانتقاد، وتوالى الهُجوم على كلّ ما يُراد تلقينه للنشء؛ دون تمييزٍ بين الغثّ والمُفيد.

***

الحفظُ في مواجهة الفَهم مقابلة سخيفةٌ وسطحيَّة. في أزمنة ولت وانقضت؛ حَفظَ التلامذةُ عن ظهر قلب ألفية ابن مالك، كما حفظوا المُعلقات وأشعار الجاهلية وما لحقها من قصائد مُطوَّلة، ولم يكن بينهم من تعطَّل عقلُه بسبب الحِفظ، ولا مَن عَجزَ عن التفكير والتحليل والاستنتاج بسبب امتلاء الذاكرة؛ إنما ينشطُ العقلُ للرَّبط بين الكلمات، ويبتكر طرقًا مختلفة لجَمعها، ولا يخلو الأمر من تمرين مُهم ومُثمر على عملية الاستدعاء السَّريع والدقيق في آن، والحقُّ أن المرءَ يفقد في غيابِ هذا وذاك جزءًا مهمًا من ملكاته ومهاراته، ثم يسعى لاحقًا لتعويضه عبر استخدام الآلات؛ فكأنه يُبدّد بيده ما مَلك ثم يعاود البحث عن بدائل.

***

على أجسام أغلب عربات الأجرة عباراتٌ منقوشة بخطّ اليدّ، أو ملصقات تحمل مأثورًا ما. كثيرًا ما توضع أدعية أو حكم وأمثلة شعبية؛ بدءًا من “ما تبصليش بعين رَضيَّة.. بصّ للمدفوع فيا” إلى “الحافظ هو الله”. الأولى درء صريح للحسد، والثانية استدعاء لقوة أكبر كي تؤدي دور الحماية. في الأولى خفة الدم المصرية الأصيلة، وفي الثانية تسليم للأمر واستسلام لما سيأتي، ويقين بأن حوادث السير لدينا لا ترتبط بمبلغ الحذر ولا بالتزام أسباب النجاة. حادث هنا وحادث هناك، قتلى هنا ومصابون هناك، طريق انتهى العمل فيها منذ فترة قصيرة؛ لكنها تتعرض لفجوات وتشققات وهبوط، صيانة وترميمات لا تُتَّخذ الحيطة بشأنها ولا ينبه أحد لوجودها، كمائن تقف في أماكن غير مدروسة ولا آمنة، والنتيجة في النهاية كارثة تلو أخرى، وفاجعة لا نفيق منها إلا على التالية.

***

تحمل كثير المعلبات عبارة “بدون مواد حافظة”. خلو الطعام مما قد يضر الآكلين أمر مغرٍ مُثير؛ لكن التأكد من صدق المعلومة في ظل فوضى عارمة تكتنف عملية التصنيع والإنتاج؛ أمر يبقى من الصعوبة بمكان، وأكم من منتجات ضبطت وعليها علامات صلاحية تخفي الأخرى المنتهية، وأكم من أماكن لتعبئة مواد لا يمكن وصفها بأنها غذائية أو حتى غير مؤذية. على كل حال؛ حفظ الطعام فنّ له طرائق كثيرة متنوعة، أبسطها التجفيف الذي يعطي في بعض الأحوال قيمة إضافية للمنتج، وأسوأها المواد الكيميائية التي قد تعطل المناعة الطبيعية.

***

فيك من يحفظ السّر؟ لا ينتظر السائل في حقيقة الأمر إجابة؛ إنما سؤاله مقدمة لإفشاء ما لا يقدر على كتمانه. حفظ السر وظيفة صاحبه وحسب، لا يُسأل عنه الآخرون؛ فالكلمة ما كسرت حاجز الحماية الأول باتت مشاعًا؛ لا يلام الناس على تداولها ونشرها.

***

يُسهِم الحفظ بنصيب وافر في الدَّعوات: ربنا يحفظك ويرعاك، ربنا يحفظك من كلِّ سوء أو شرّ، ربنا يحفظ لك ولادك، ربنا يحفظ طريقك؛ يختار الداعي إحدى هذه العبارات، قد تكون الدعوة من قبيل الاعتياد، وقد تصدر من القلب.

***

بعض المرات يطبق الواحد قاعدة تعلمها، يلتزم بها ويسعى للحصول على النتيجة المرجوة؛ لكنه يخفق. يعيد التجربة بحذافيرها مرة وعشرًا ولا ينفك يعجب لتكرار الفشل. لا يفكر لحظة إن كان اختياره ملائمًا أو مجانبًا للصواب، أو ربما محتاجًا لشيء من التعديل؛ إلى أن ينبهه آخر لموطن الخلل فيدرك أنه “حافظ مش فاهم”. الحفظ دون فهم جريرة والجمع بين الحسنيين يؤدي لأفضل النتائج.

إقرأ على موقع 180  آخر خرطوشة فرنسيّة ببندقيّة أميركيّة

***

إذا حافظ الواحد على شعرة معاوية فقد تحرَّك بين اللين والشدة؛ متوخيًا ألا يغلق الأبواب، وألا ينهي فرص العثور على حلّ، والعبارة تعود إلى معاوية بن أبي سفيان وقولته الشهيرة: ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا مدوها أرخيتها وإذا أرخوها مددتها.

***

يحفظ الصغارُ في فلسطين أن لهم حقًا غائبًا، وأن الأرضَ المحتلة إرثُهم وإرثُ أجدادِهم، وأن العدوَّ إلى زوال. يحفظون ما يلقنهم الأهلُ من معاني العِزَّةِ والشجاعةِ والكبرياء، يكبرون وفي عقولهم معرفة راسخة، وفي صدورهم كرامة محفوظة، وفي قلوبهم يقينٌ بالنصر. يحفظ حكام العرب في المقابل أن لهم حليفًا دنيئًا وجبت عليهم طاعته، وأن بقاءهم مرتبط برضائه، وأن شرفهم في سبيل الاحتفاظ بالعروش يهون. لكل امرئ ما هوى، ولكل اختيار ما يلائمه من أوصاف.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
بسمة عبد العزيز

طبيبة وكاتبة مصرية

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إسرائيل "اليمينية".. تحوّلات إقليمية ودولية