

إنّ ما نريد قوله في هذه المقالة -وعلى خلاف ما تقدم- أن وعي الشهادة ووظيفتها، وما يمكن أن يترتب عليها من نتائج، في مدرسة الحسين(ع)، يحيلها إلى حقيقة أخرى، حيث تصبح عامل قوة لا ضعف، وعلامة على المسؤولية لا عدمها، ودافعًا إلى الحياة لا الموت، وسبباً الى صناعة الانتصار لا الهزيمة.
ولنا في شهادة الحسين(ع) خير مثال على ما نقول، إذ إن هدفه قد كان الإصلاح، وإقامة العدل، وسوى ذلك من غايات ومقاصد، لكن، لمّا لم يكن ممكنًا تحقيق هذا الهدف بالغلبة المادية المباشرة في الميدان، فقد توسل إليه بالشهادة، أي أن شهادته كانت وسيلته لتحقيق هدفه ومقاصده، وهو ما قد حصل، حيث ترتب على شهادة الحسين(ع) الكثير من النتائج، التي ما كان لها أن تتحقق بغير الشهادة.
وهنا نقول باختصار: إن من تلك النتائج، أن شهادة الحسين(ع) قد أسقطت المشروعية الدينية عن المشروع الديني الأموي، وأسقطت المشروعية السياسية عن السلطة الاموية، فأوجدت، تالياً، إحدى أهم الأسس للقضاء على تلك السلطة – ولو بعد حين-، خصوصًا عندما نلتفت إلى أن هذه الشهادة قد أدت إلى توليد نقمة عارمة في الوجدان الإسلامي على تلك السلطة، وسبّبت كراهية المسلمين لها ولرموزها، هذا فضلًا عن أن شهادة الحسين(ع) قد أوجدت ديناميات اجتماعية، عاطفية، ثقافية، دينية، بل وأيضًا سياسية، ساهمت بقوة في الحفاظ على مدرسة أهل البيت(ع)، وديمومة رسالتها، وحفظ هوية الموالين لها، ومدّ مجتمعاتهم بالكثير من عوامل القوة والإباء. وإنّ من يقرأ هذه النتائج وغيرها، يعي حقيقة ما نقول، من أن شهادة الحسين(ع) قد صنعت الانتصار، وما زالت تفعل، وسوف تبقى كذلك.
وباختصار: إن الحسين(ع) في حياته قد كان إمامًا للجماعة، لكنه في شهادته قد أضحى إمامًا للتاريخ، ومن يصبح إمامًا للتاريخ لا يعرف معنى الهزيمة أو الاندثار. لقد جعلت الشهادة من الحسين(ع) مدرسة، وأعطت لرسالته دفعًا إلى نهاية التاريخ، ومنحت مدرسته جاذبيتها، و قدرتها على التأثير والديمومة، وصناعة الوعي والوجدان، عندما أمسى الحسين(ع) قدوة عابرة للزمان، ورمزاً ترنو إليه الأجيال.
ويرتكز هذا الفهم على شريطة أن نتجاوز الحدث إلى تداعياته، والراهن من وطأته إلى مدياته في حركة التاريخ، وألا تغيب في رؤيتنا إلى شخص الشهيد قضيتُه وأهدافُه، وأن نقيم توازنًا بين البعد الوجداني وبين البعد العقلاني(الرسالي) في النظرة إليه، وأن يكون وعي الشهادة متمحورًا حول فلسفتها ودورها ووظيفتها والنتائج التي تترتب عليها، وما يجب على الأمة فيها، وكيفية الانتقال بها من شهيد الأمة إلى الأمة الشهيدة، من خلال فعلَي الإرادة والإدارة.
وعليه، يبقى أمر في غاية الأهمية، وهو أن مخاض الشهادة يحتاج إلى إدارة هادفة، حتى تصل بها إلى أهدافها وغاياتها. ولذلك، مع الشهادة تبدأ مسؤوليات أخرى، ولربما أشد، حتى يمكن البناء عليها، واستثمار معانيها، وقطف ثمارها، والوصول بها إلى مجمل مقاصدها.
واتكاء على فلسفة الشهادة هذه، يُمكن لنا أن نعي العديد من حقائقها ومعانيها، وهو ما قد يتطلب أن نبحث فيها في بُعديها الملكوتي(الغيبي)، والملكي(الدنيوي العام).
في البعد الأول لنا كلمتان، كلمة في الشهيد، وكلمة في الشهادة، أما التي في الشهيد، فهو بشهادته ينتقل من حياة أدنى إلى حياة أسمى، ولذلك هو بفعل الشهادة يطلب الحياة الأسمى لنفسه، وليس الموت، أما فيما يتصل بما يطلبه لأمته، فسيأتي الكلام فيه لاحقًا. أما الكلمة التي في الشهادة، فهي – في فلسفتها الغيبية – أن الشهيد يؤدي شهادته على أمته ومجتمعه، يوم القيامة، على ما فعلوا في الدنيا. وهذا المقام الذي يُعطاه الشهيد يوم القيامة، ليس مجرد تكريم له، بل هو فرع لتلك المسؤولية الكبيرة التي كان يحملها في الحياة الدنيا. وهذا يعني أن من جوهر الشهادة المسؤولية في الدنيا، والقيام بالواجبات فيها، وأداء التكاليف في مجمل أمورها وقضاياها.
دائماً ما نجد من يمارس التهديد للأمم بالموت، من أجل دفعها إلى الاستسلام، لكن تحويل الموت إلى شهادة، يجعل من الموت عامل قوة وإباء بوجه الظالم وفساده، وسبب منعة وعنفوان في قبال الطغاة وتجبّرهم، وذلك أن أبعد ما يمكن أن يرهب به الطغاة والظالمون أمةً من الأمم، هو ترهيبها بالموت، لكن عندما يؤول الموت إلى شهادة، وصناعة للحياة، هنا يفقد أولئك الطغاة والظالمون أداتهم التي يستخدمونها لإرهاب الأمة وإخضاعها، ودفعها إلى الرضوخ والاستسلام
وفي البعد الدنيوي العام، فالشهيد لا يُقدم على التضحية بنفسه فراراً من المسؤولية، أو رغبة بالموت، بل إن دفاعه عن قضيته، برغم المخاطر الكامنة في هذا الدفاع، هو من أرقى درجات المسؤولية، والتفاني في القيام بالواجب، والسعي إلى صناعة الحياة بالموت.. وهذا بعضٌ من دلالات الشهادة.
أما على مستوى بعض تلك النتائج في الاجتماع الدنيوي العام، فإن الشهادة، وبشكل أساس، تفضي إلى أمرين: الأول التفاعل الوجداني مع الشهيد وقضيته، ما يؤدي إلى نوع من الارتباط الوجداني مع تلك القضية والالتزام بها، والثاني أنها تضفي بنوع من القدسية على قضية الشهيد النبيلة وهدفه السامي، ما يجعل لها جاذبيتها الخاصة، وقدرتها على التأثير في الوعي والوجدان، هذا فضلاً عما توجده الشهادة في نفوس مجتمع الشهيد وأمته، من شعور إضافي بالمسؤولية، ودافعية إلى إكمال مسيرته، وحافزية إلى مزيد من السعي لتحقيق أهدافه.
ولذلك، إن وظيفة الشهادة صناعة الحياة، من خلال إحياء الرسالة التي يبذل الشهيد دمه من أجلها، فالشهادة ليست موتاً، بل هي سبب للحياة الأرقى في بُعدها الملكوتي الخاص بالشهيد، وهي في آثارها الدنيوية مَخصَب للحياة الكريمة للأمة، التي تحيا بإحياء رسالة الشهيد، وهدي قضيته.
أي إن شهادة شهيد الأمة، تنتج الأمة الشهيدة، إذ إن إرث الشهداء، في سيرتهم وتضحياتهم ومجمل مناقبهم، سوف يسري في وعي الأمة، وسوف يسهم بقوة، من حيث آثاره المعنوية والأخلاقية والثقافية وغيرها، في بناء وعيها، وهداية مسيرتها، وتثمير قيمها، وتوجيه ثقافتها، وصناعة الشعور بالمسؤولية لديها.
إن صيرورة الأمة أمةً شهيدة، بفعل شهادة الشهداء، سوف يعمل على تحفيز وعي الأمة، وهدايته، وترشيده، ما يؤدي إلى تحريك الطاقات الهائلة الكامنة في وجدان الأمة وبواطنها، وهو ما يفضي إلى إنتاج التغيير. أي إن تخصيب تلك الطاقات المودعة في الأمة، سوف يفضي إلى تحقيق أهداف الشهادة ومقاصدها. وبعبارة موجزة: إن هبة الشهيد لحياته الجسدية في سبيل قضيته، سوف يسهم في صناعة حياة الأمة، وهدايتها، وتحريك الطاقات المودَعة فيها.
نعم، في موضوع الحياة وفلسفتها، فرقٌ بين الحياة البهيمية (الجسدية)، وبين الحياة الإنسانية، فالشهيد يضحّي بحياته الجسدية، من أجل حياة أمته الإنسانية، أي إن الشهادة تجاوز لتلك الحياة الجسدية، من أجل الوصول إلى الحياة الإنسانية الكريمة، التي هي الحياة القيمية السامية، التي تقوم على الكرامة الإنسانية، والعزة، والحرية، والاستقلال، والسيادة الحقيقية.
ومن هنا، فرق بين معنى الحياة وأبعادها لدى الأحرار، وبين معناها وأبعادها لدى العبيد الأذلاء، الذين نجد أن البعض منهم يتباهى برفع شعار الحياة، بل ويتهم غيره بأنه يريد الموت، لكن هؤلاء عندما يرفعون شعار الحياة، فإن ما يقصدونه هو الحياة البهيمية، أي إن أقصى ما يطمحون إليه، هو هذه الحياة الوضيعة، من الطعام والشراب والتناسل، كما الأنعام، في حين أن الأحرار، هم الذين يسعون إلى الحياة الحقيقية، أي الحياة الإنسانية الكريمة، بل هم الذين لديهم القدرة على تحويل الموت إلى شهادة، وإلى صناعة للحياة، وهم الذين يأبون أن تكون حياتهم البهيمية هدفًا أسمى لهم، أو أن تكون على حساب حياتهم الإنسانية الكريمة، وإذا ما حصل تعارض بين حياتهم البهيمية أذلاء، وبين حياتهم الإنسانية – ولو في بعدها الملكوتي- أعزاء، فلا يترددون في اختيار حياتهم الإنسانية على حياتهم البهيمية، بخلاف أولئك، الذين لا همّ لهم إلا حياتهم البهيمية، التي هي أقصى طموحهم، وأبعد أمانيهم.
وهذا هو جوهر الفرق، بين حياة العبيد ومرادهم من الدنيا، ومستواهم القيمي الهابط في النظرة إليها، وبين حياة الأحرار وهدفهم من الدنيا، والمدى القيمي والأخلاقي الذي بلغته نفوسهم في الرؤية إليها.
إن فلسفة الشهادة في وعي الأمة، عصمة لها من الذلّة والعبودية، وحصانة لها من المهانة والحياة الوضيعة، إذ دائماً ما نجد من يمارس التهديد للأمم بالموت، من أجل دفعها إلى الاستسلام، لكن تحويل الموت إلى شهادة، يجعل من الموت عامل قوة وإباء بوجه الظالم وفساده، وسبب منعة وعنفوان في قبال الطغاة وتجبّرهم، وذلك أن أبعد ما يمكن أن يرهب به الطغاة والظالمون أمةً من الأمم، هو ترهيبها بالموت، لكن عندما يؤول الموت إلى شهادة، وصناعة للحياة، هنا يفقد أولئك الطغاة والظالمون أداتهم التي يستخدمونها لإرهاب الأمة وإخضاعها، ودفعها إلى الرضوخ والاستسلام، فالأمة التي لا تخاف الموت لا تُهزم، والأمة التي لا تخشى التهديد به، لن يكون سهلاً العمل على إخضاعها واستعمارها.
إن المجتمعات التي تنتمي إلى مدرسة أهل البيت(ع) ونهجهم، قد لا يعوزها كثير أدلة، حتى تثبت، كيف تكون الشهادة سبب حياة وهداية، وفعل قوة وإرادة، ومنبعاً لصناعة الانتصار، إذ تكفي نظرة إلى شهادة الحسين(ع) وأهل بيته وأصحابه في كربلاء، حتى نعي أن ما نقوله ليس مجرد تنظير بحثي، يفتقد إلى الدليل التاريخي، وخير الدليل عليه، هو ما آلت إليه عاشوراء وأحداثها في الوعي والوجدان والتاريخ والاجتماع العام، وقدرتها على الاستيلاد المستديم لنماذج مشابهة لها، تعبّر عن قيمها، وتنتمي إليها، في كل موقف أو موضع يخيّر فيه أبناء تلك المدرسة (عاشوراء)، بين الرضوخ أذلاء، أو الموت أعزاء، بين اختيار حياة الأنعام، أو اختيار موت الكرام، بين خيار الحياة الوضيعة، أو صناعة الحياة السامية بالموت والشهادة، فلن يترددوا في اختيار ما تهدي إليه مدرسة عاشوراء من الشهادة والحياة الكريمة، ورفض الخضوع والذل والاستسلام، وتقديم الموت أعزاء على الحياة (البهيمية) أذلاء.