ما هو مطروحٌ أمامَنا في اللحظةِ الراهنةِ هو الوضعُ اللبناني. الانتهاكُ الأخيرُ الذي استهدفَ بلدةَ “بليدا” الجنوبيةَ هو جُزءٌ من سلسلةٍ طويلةٍ منَ الاِنتهاكاتِ المُتواصِلةِ منذ نحوِ أحدَ عشَرَ شهراً، وقد بلغتْ حتى الآنَ ستةَ آلافِ انتهاكٍ، وحصدتْ نحوَ ألفٍ منَ المُواطنينَ شهداءَ وجرْحى وشملتْ دائرتُها الجنوبَ والبِقاعَ والعاصمةَ بيروت. وكانتِ السلطةُ اللبنانيَّةُ تلوذُ دوماً بالتنديدِ والاستنكارِ، وتقولُ إنَّ الأوراقَ الدِبلوماسيةَ لم تُسْتَنْفَدْ بعدُ كما كرَّرَ مِراراً رئيسُ الحكومةِ نوَّاف سلام، فيما كانت لَجنةُ “الميكانيزم” ساكتة لتُقدِّمَ الضوءَ الأخضرَ، والغِطاءَ الأسودَ للعُدوانِ الإسرائيلي، وتتلَهَّى بخُبثٍ في مسألةِ نزعِ سلاحِ المقاومةِ من دونِ أيِّ مشروعٍ جِدّيٍّ لحوارٍ داخليٍّ أو لوضعِ إستراتيجيّةٍ وطنيةٍ دفاعيةٍ لحمايةِ لبنانَ، وتتجاهلُ أنَّ المواقفَ المصيريّةَ الوجوديَّةَ لا تكونُ من دونِ تسويةٍ وطنيّةٍ وإلَّا فإنَّ المآلَ هو الخرابُ.
هذه المرَّةَ بعدَ العُدوانِ على “بليدا” واقتحام بلديّتِها واغتيالِ أحدِ موظّفِيها إبراهيم سلامة، (فيما كانتِ المبعوثةُ الأميركيّةُ مورغان أورتاغوس تترأسُ اجتماعَ لجنةِ “الميكانيزم”) بَرَزَ أمرٌ آخرُ، لم يحصلْ منذُ تشرينَ الثاني/نوفمبر الماضي يوم وُضِعَتْ الآليّةُ الجديدةُ لتنفيذِ القرارِ 1701 . لقدْ سُجِّلَتْ لرئيسِ الجمهوريةِ العماد جوزاف عون نقطةٌ إيجابيّةٌ شديدةُ الأهميةِ عندما طلبَ من الجيشِ اللبناني– وهو دستوريّاً القائدُ الأعلى للقواتِ المسلَّحةِ– أنْ يتصدَّى لأيِّ توغُّلٍ إسرائيليٍّ في الأرض اللبنانية المُحرّرة، ولبَّى الجيشُ الطلبَ سريعاً وبدأَ باستحداثِ اِستحكاماتٍ عسكريّةٍ في الجنوب، بالرَّغْمِ من إمكانيّاتِهِ المَحدودةِ.
ليستِ الحكومة ُعلى موقِفٍ واحدٍ منَ المسألةِ الوطنيةِ، فالتباينُ داخلَها كبيرٌ. ولو كان الأمرُ على غيرِ هذا النحوِ لكانَ منَ المفترَضِ أنْ يُبادرَ مجلسُ الوزراءِ بعد موقفِ رئيسِ الجمهوريةِ إلى التفكيرِ جدَّياً بوضعِ خطةٍ دفاعيةٍ، وقيادةِ حوارٍ داخليٍّ لبلوغِ تسويةٍ وطنيَّةٍ، تحمي لبنانَ، وتُحصِّنُهُ أمامَ التحدِّياتِ المقبلةِ عليه، ومنها استئنافُ العدوانِ الإسرائيلي، وتصاعدُ التأثيراتِ من الوضعِ في سوريا التي أصبحَتْ تُهدِّدُ البقاعَ شمالاً وشرقاً بما يحمِلُ هذا الأمرُ من تداعياتٍ على وَحدةِ العيشِ بين اللبنانيينَ
ولا شكَّ في أنَّ هذه الخُطوةَ الرئاسية تُمثِّلُ نقلةً نوعيَّةً يجبُ الالتفاتُ إليها باهتمامٍ شديدٍ لأنَّ رئيسَ الجمهوريَّةِ لا يستطيعُ أنْ يجْعلَ من هذه النُقطةِ تحوُّلاً ذا أبعادٍ مستقبليّةٍ من دونِ أنْ تتوحَّدَ القوى السياسيّة على ذلك. ونلاحظُ هنا، أنَّ المقاومةَ بادرتْ فوراً إلى تأييدِ موقفِ رئيسِ الجمهورية والشدِّ على يديهِ، وشاركَها رئيسُ مجلسِ النوابِ نبيه برِّي عندما أكَّدَ أنَّ “الإدانةَ وحدَها لم تَعُدْ تنفعُ”. القُوى الباقيةُ راوحَ معظمُها في السكوتِ، والقليلُ منها أبدى مواقفَ خجولةً، بينما استمرَّتْ قُوىً أخرى في رؤيتِها العدائيةِ فتجاهلتْ موقِفَ رئيسِ الجُمهوريّةِ، وكرَّرتْ أفعالَ اصطفافِها ضدَّ المقاومةِ، وأطلقتْ دعواتٍ جديدةً لنزعِ سلاحِ حزب الله (سمير جعجع نموذجاً) من دونِ أيِّ التفاتٍ لتوجُّهِ رئيسِ الجمهوريّة، وهي في ذلكَ تمارسُ الابتزازَ تحت شعارِ “حصريّةِ السلاحِ”، أمَّا ما يقومُ بهِ الاحتلالُ في الجنوبِ وغيرِهِ فلا يعني لها شيئاً سوى السعيِ إلى استثمارِ العدوانِ في الحساباتِ الداخليَّةِ.
رُبَّ إيجابيّةٍ مُعيَّنةٍ تكشِفُ سلبيَّاتٍ كثيرةً وَفقاً لأبسطِ قواعدِ الديالكتيك. وهذا ما ينطبِقُ على الموقفِ الأخيرِ لرئيسِ الجمهورية. فما هي هذه السلبيَّاتُ؟
أوَّلاً؛ ليستِ الحكومة ُعلى موقِفٍ واحدٍ منَ المسألةِ الوطنيةِ، فالتباينُ داخلَها كبيرٌ، ولا يَخفى ذلك على المتابعين. ولو كان الأمرُ على غيرِ هذا النحوِ لكانَ منَ المفترَضِ أنْ يُبادرَ مجلسُ الوزراءِ بعد موقفِ رئيسِ الجمهوريةِ إلى التفكيرِ جدَّياً بوضعِ خطةٍ دفاعيةٍ، وقيادةِ حوارٍ داخليٍّ لبلوغِ تسويةٍ وطنيَّةٍ، تحمي لبنانَ، وتُحصِّنُهُ أمامَ التحدِّياتِ المقبلةِ عليه، ومنها استئنافُ العدوانِ الإسرائيلي، وتصاعدُ التأثيراتِ من الوضعِ في سوريا التي أصبحَتْ تُهدِّدُ البقاعَ شمالاً وشرقاً بما يحمِلُ هذا الأمرُ من تداعياتٍ على وَحدةِ العيشِ بين اللبنانيينَ.
ثانياً؛ هذه السلبيةُ المُشارُ إليها آنِفاً تعكِسُ اتساعَ الانقسامِ في لبنانَ بينَ فِئاتٍ ترى في “إسرائيل” عدوَّاً وتطالبُ بالتصدِّي لمخطّطاتِهِ، وفئاتٍ تنظرُ إليها مُدَّعِيةً بأنَّها جارةٌ وتسعى إلى التسليمِ لها، وتُلاوِصُ على المقاومةِ وتتّهمُها بأنَّها هي التي جَلَبَتِ الاحتلالَ والويلاتِ على لبنانَ، وكأنَّ التاريخَ مجهولٌ إذْ يُغمِضُ هؤلاءِ عيونَهُم عنِ الاعتداءاتِ الإسرائيليةِ على الجنوبِ منذ نحو ثلاثةِ أرباع القرنِ، وعلى المياهِ والمرافقِ الحيويّةِ اللبنانية في العمق.
ثالثاً؛ النقلةُ النوعيّةُ في موقفِ رئيسِ الجُمهوريةِ لم تتحوَّلْ عند كثيرٍ من القُوى السياسيّةِ إلى حافزٍ يُبنى عليهِ، فلقدَ أصابَها الإهمالُ والتراخي بدلاً منْ أنْ تكونَ مَدْعاةً إلى توسيعِ دائرةِ طلبِ رئيسِ الجمهوريةِ من الجيشِ التصدِّي لأيِّ توَغُّلٍ إسرائيلي، ما يَعني أنَّ هذه الخُطوةَ معرَّضةً لفقدانِ معناها السياسي وللحُؤولِ دونَ صيرورتِها إلى معنىً وطنيٍّ شعبيِّ واسع.
رابعاً؛ هناكَ فئاتٌ لا تُريدُ لرئيسِ الجمهوريةِ أنْ يخرجَ منَ الدائرةِ المسيحيةِ إلى الدائرةِ اللبنانيةِ الوطنيةِ (“القوات اللبنانيةُ” نموذجاً)، ولهذا تحرَّكتْ سريعاً بعد إعلانِ موقفِهِ لتتحدَّثَ عن نزعِ سلاح المقاومةِ وجَعلِهِ أولويَّةً، وتجاهلتْ عمْداً أهميةَ الكلامِ الرئاسي، والعُدوانَ المتواصلَ على الجنوب، ومخاطرَ المشروعِ الإسرائيلي على كلِّ لبنان. وليس خافياً أنَّ هذا الموقفَ يهدِفُ داخليَّاً إلى إبقاءِ شرائحَ واسعةٍ منَ المسيحيينَ ومن طوائفَ أخرى بَعيدةً عنِ التفاعُلِ الوطني.
هذه الملاحظاتُ ليستْ عابرةً. ويُخْشى من أنْ تَتَمكَّنَ من زيادةِ السُمومِ في الوضعِ الداخليِّ فتجعلَ من النقلةِ النوعيّةِ التي بادرَ إليها رئيسُ الجمهوريةِ نَقْلةً عابرةً. كان على رئيسِ الحكومةِ أنْ يكونَ موقِفُهُ موازياً لموقفِ رئيسِ الجمهوريةِ بدلاً من المراوحةِ تحت شعار “حصرِ السلاحِ في يدِ الدولة”، فيما يرى الجميعُ العدوَّ الإسرائيليَّ يُوسِّعُ الاستباحاتِ ويُضاعفُ التهديداتِ تحت الغطاءِ الأميركيِّ.
لبنانُ يَحتاجُ إلى النظرِ نحوَ موقفِ رئيسِ الجمهوريةِ بوصفهِ نقطةَ انطلاقٍ لبناءِ وحدةٍ وطنيّةٍ على قاعدةِ أنَّ الكيانَ الإسرائيليَّ عدوُّ الجميعِ، وإلَّا فعبثاً نبحثُ عن سيادةِ لبنان، وعن بقاءِ لبنان.
